شوف تشوف

الرأي

فلسفة السرطان

بقلم: خالص جلبي

هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولونات والدرق على المريض؟ هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ«الخبث» في تصرفاتها، كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم؟ هل هناك مظاهر اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر؟ هل هناك أجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة؟ هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية، فطورت المعالجة «الاجتماعية، الكيمياوية والإشعاعية والجينية»؟ ثم قبل كل شيء لابد من تعريف السرطان البيولوجي، للاقتراب من المفهوم الاجتماعي.
السرطان بكلمة مختصرة هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم، وهو في صورة ثانية «الخلل الوظيفي الزماني المكاني»، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة، وهي تترك مكانها لتحتل مكانا خاصا بآخرين، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن في عزف سيمفونية بديعة متماسكة النغمات.
من كانت مهمته البناء يتجه إلى التدمير، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة، وخلايا الأمعاء تترك مكانها فتنزل ضيفا غير مرحب فيه، في الكبد والرئة، وخلايا الجلد تستقر في الدماغ.
ضياع المجتمعات يحدث بالطريقة نفسها؛ فالسرطان الاجتماعي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات، ويشذ الناس عن القانون.
إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف، يجعل البدن فاقدا لهدف الحياة بلا معنى، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء، لأنه أصبح معادلا للفناء، أو هو يسير نحو الفناء لأنه فقد مبرر الحياة، فالسرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة؛ بفقد هدف الحياة.
المرض الاجتماعي يحدث بمحاولة الفرد «الانتهازي» أن «يتورم» وينتفخ على حساب الجماعة؛ فينقلب إلى «قارض اجتماعي» يقضم الشبكة الاجتماعية، أو خلية سرطانية تفترس الأنسجة الحية.
وكما يصاب الفرد بالمرض فإن الجماعات لها أمراضها «النوعية».
يشكل المرض وحدة عضوية خاصة به، ذات شخصية متكاملة، سواء الزكام أو السرطان، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية فالجعبة مليئة من «عدم احترام القانون» و«تجاوز إشارات المرور» و«كراهية النظام والانضباط» و«السطحية في معالجة الأمور» و«عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها، بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان!»، و«نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ» و«النطق بلا مسؤولية» و«عدم احترام الآخرين» و«التسيب الوظيفي» و«اللافعالية» و«البيروقرطية غير المنتجة» و«عدم تقدير الوقت» و«ضعف الذوق الجمالي» و«غياب الروح العملية» و«انطفاء روح المبادرة» و«عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام» و«تجنيد جيوش موازية» لحراسة الشخصيات السياسية. أمراض تعشش في جلد النظام، كما تملأ البراغيث فروة الثعلب المسكين.
وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي، تأتي في قمتها «الرشوة» و«المحسوبية» و«الوساطة»، واختصرها القرآن بالثلاثي: «ولا يقبل منها شفاعة» و«لا يؤخذ منها عدل»، فيتعفن كامل الجهاز البيروقراطي بدون أمل في رحمة الله.
يمكن القول باختصار: تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية من قوة نفاذ القانون. حين يتضخم الأفراد ينكمش القانون، لأن الوجودين متزاحمان في الوعاء الاجتماعي.
النمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات. ويظن أولئك «المغامرون» أنهم يحسنون صنعا، وأنهم «شطار» يعرفون كيف «تؤكل الكتف»، ولكن السرطان حينما ينمو، أول ما يفعله، أنه يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة، فيكون مثله كمثل القرد سيئ الذكر في قصة كليلة ودمنة، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه. وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لا يشعر، حين يدمر مصادر وجوده، فيهوي والبدن إلى فراش الموت، في حماقة أشد من غلام الجاحظ.
سأل الجاحظ غلاما فقال له: «يا غلام أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمق»، قال: «لا والله يا عماه»، قال له الجاحظ: «ويلك يا غلام إنها فرصة العمر»، قال يا عماه: «أضيع الدنانير وأبقى أحمق مدى الحياة!».
يجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد، تموت الجماعات، وتدول الدول، وتفنى الأمم، وتنقرض الحضارات فـ«لكل أمة أجل»، ومن خلال السرطان النوعي الخاص بكل مستوى.
إن السرطان يكشف اللثام عن أسراره اليوم، حيث يمكن فهمه أيضا ضمن هذه اللعبة، فالتكاثر الخلوي يخضع لتوازن دقيق من خلال عمل جيني محكم، والخلل الجيني هو الذي يطلق جماع التكاثر الخلوي من خلال فقد آلية السيطرة على التكاثر، بل نبدأ نفهم من لعنة السرطان هذه سر الحياة أكثر، ولماذا كتب علينا أن نعيش عشرات السنوات فقط، وهل الانقسام الخلوي محدد كما يقال على حوالي خمسين انقساما فقط؟ ولكن لماذا تمضي الخلايا السرطانية المجنونة بانقسام رهيب لا يتوقف، بحيث إذا أخذت الخلايا السرطانية في جسم المريض مات المريض؟ ولكن الخلايا تستمر في التكاثر المرعب، طالما ضمن لها الغذاء الذي يمد في عمرها عندها قد لا نرى في السرطان لعنة، بل رحمة من خلال إدراك سر التكاثر الخلوي. ثم أليس تكاثر خلايا الجنين في بطن أمه يشكل تكاثرا سرطانيا من نوع آخر إيجابي، حيث تتكاثر الخلية الواحدة إلى مليارات الخلايات المتخصصة؟ ما هي الآلية يا ترى التي تسرع في الخلايا وهو جنين في الرحم، ثم تتباطأ أكثر فأكثر مع الخروج من الرحم؟ كلها أسئلة يخترقها العلم الجديد اليوم. ويجب أن تتعلم حقيقتين من العرض السابق… الأولى تقول يجب أن لا نخاف من العلم، ففيه قدرة التصحيح الذاتي، كما قاد العلم إلى السلم مرغما على النحو الذي عرضناه في علاقة العلم بالسلم في مقالات سابقة. والحقيقة الثانية أن الزبد سيذهب جفاء وما ينفع الناس سيمكث في الأرض، ويجب أن لا يفزعنا التطور العلمي، لأنه سيأتي بشهادات جديدة على الحق الذي بنيت عليه السماوات والأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى