شوف تشوف

الرأي

فلسفة الدولة والحرب

بقلم: خالص جلبي

ذكر الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه «القوة ـ The Power» من حديث (كونفوشيوس)، حين رأى امرأة تبكي بحرقة أباها وزوجها، اللذين افترسهما النمر. فسألها: ولماذا لا تغادرين هذه الأرض التي تفترس فيها النمور البشر؟ أجابت: هنا لا توجد حكومة ظالمة. التفت كونفوشيوس إلى تلاميذه وقال لهم: «انظروا إن الحكومة الظالمة أفظع من النمور الجائعة!». ويذكر هذا بالجدلية التي فككها راسل في الكتاب نفسه، في جدلية الغابة وولادة الدولة وفلسفة قيامها؛ وهي الفلسفة ذاتها التي وصل إليها (إمام عبد الفتاح إمام) في كتابه «الطاغية»، أن ملك الفرس كان إذا مات لم يعين من يقوم مقامه ثلاثة أيام، تعم فيها البلد الفوضى، فإذا ظهر الملك في اليوم الرابع واستتب الأمن، عرف الناس واكتشفوا على نحو غريب وظيفة الدولة الأولى: الأمن…
ويلتقي (راسل) و(ابن خلدون) و(القرآن) عند هذه النقطة «أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم»، أنه لم يمكن للبشر تحمل فوضى الغابة؛ فكان المجتمع ضرورة مطلقة قصوى لإنتاج (الإنسان الاجتماعي). وهو أمر أكدته واقعة «صبي أفيرون الوحشي» على ما رواه (بيتر فارب) في كتابه «بنو الإنسان»، الذي تم اصطياده من الغابة عام 1799 م، وحاول الدكتور (إيتار كسبار) عبثا إدخاله الحظيرة الإنسانية، فلم ينطق قط إلا بعبارات مبهمة قاصرة. وهكذا فالمجتمع يمثل الضرورة القصوى لحياة البشر، كما ذكر ابن خلدون ذلك من زاوية مختلفة مبرهنة بأمرين: «المدافعة والغذاء»؛ أي لا يمكن إنتاج رغيف خبز بدون تعاون سلسلة لا نهائية من الاختصاصات، ولا يمكن دفع أي عدوان من حيوان ضار أو آخرين من بني جنسه بدون تعاون بني البشر.
وحسب راسل، فإن المجتمع يفرز «الدولة» التي تحتكر «العنف» مقابل توفير «الأمن» للأفراد، وبذلك أمكن ولادة الحضارة في ظل الدولة، ومنها كل الإنجازات، كما يصف ذلك المؤرخ الأمريكي (ديورانت) في كتابه «دروس التاريخ»، أن الحضارة نسيج من غلالة رقيقة من شبكة علاقات، نسيج يتسم بالجهد والعبقرية في إنتاجه والسهولة في تدميره. ولكن المشكلة كما بينها عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) في كتابه «مهزلة العقل البشري» أن ولادة الدولة كانت ورطة الجرذ في المصيدة مع رائحة الجبن، فالدولة (وفرت) الأمن مقابل اصطياد الفرد ضمن أذرعها الفولاذية الباردة، ومن آلية (احتكار العنف) ولد تلقائيا مرضان لم يتعاف منهما الجنس البشري حتى اليوم. ولد الطغيان الداخلي، وانفجرت الحروب بين الدول.. ومن أجل التعافي من هذين المرضين بُعِثَ الأنبياء، ليقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان.. وهو لب التوحيد للقضاء على الطاغوت السياسي والجبت الديني، فبعث الأنبياء والرسل أولا من أجل أن لا يعبد الناس بعضهم بعضا، وتحديد آلة العنف بما يكافئ توفير جرعة الأمن، مثل مطافئ الدفاع المدني، وليس جيوشا مليونية من الجاندارما والمخابرات.. وثانيا لإطفاء الحروب الخارجية وليس لإشعالها، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله..
والجهاد بمعنى القتال المسلح هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان، أينما كان ومهما دان.
وحسب (الوردي)، فإنه لم تكن هناك دولة (وحيدة)، بل مربعات لا نهاية لها من حزام الدول، وهو سبب الحروب، فالدولة التي ضبطت الأفراد داخلها بسياج من حديد، ليس هناك ما يعادلها من دولة أعلى تضبط مربعات الدول، وهو أمر خطير يفسر استمرار الحروب، وأنها سوف تبقى شغالة لحين هيمنة قوة عالمية تضبط الدول، كما ضبطت الدولة الأفراد. وهكذا فالحروب هي ظاهرة صراع الدول، أو أثناء تفكك الدولة الواحدة، كما في البوسنة ورواندا والعراق والصومال وسوريا ولبنان. وحسب رأي الوردي، فسوف تستمر الحرب جذعة لحين ولادة دولة الدول، أو نظام عالمي لا نعرفه، ربما من نموذج مبتكر؛ يضع حدا لمآسي الإنسان، ويحسم الصراعات بين الدول، كما حسمت الدولة نزاعات الأفراد، وهو أمر يتطور من رحم التاريخ، كما يحدث الآن في الاتحاد الأوروبي. وبهذه الآلية استمرت الحروب بين الدول، كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي إن كل دورة فيها كانت أشد هولا وتدميرا من التي سبقتها.
وحسب (غاستون بوتول)، صاحب معهد الحرب الفرنسي، أنه خلال 3450 سنة من تاريخ الإنسان كانت وتيرة الحرب بمعدل 13 سنة حرب، مقابل سنة سلام واحدة، يلتقط فيها الفريقان الأنفاس، مثل هانيبال وسكيبيو، استعدادا لجولة أشد ترويعا من التي سبقتها.
وكانت الحرب أمرا عاديا، تسلية للملوك، تجري على مذهب ابن آدم القاتل الأول (قابيل) الخاسر النادم، الذي سن سنة القتل، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
كانت الحرب من يقتل فيها يعد بطلا، كما قتل الإسكندر في معركة «جوجاميلا» عام 331 ق. م خمسين ألفا من جنود داريوس في خمس ساعات، أو ثمانين ألفا من شباب روما في معركة «كاني» على يد هانيبال في ثماني ساعات، أو 56600 جندي بريطاني حصدا بالرشاشات الألمانية في مسالخ الحرب العالمية الأولى في 12 ساعة، أو 65000 شاب في كربلاء 5 في خمسة أيام، ما يعادل سكان مدينة عامرة .. أو مليونا ومائتين وخمسة وستين ألفا بين بريطاني وألماني وفرنسي في خمسة أشهر، في معارك السوم.
كل هذا مر حتى مر العالم بثلاثة مفاصل تاريخية في تطور ظاهرة الحرب، بين حرب الثلاثين سنة وصلح وستفاليا في مونستر عام 1648م ومحاكم نورمبرغ عام 1946 م.
ففي الأولى اعتبرت الحرب حق الدولة، وفي المحاكمات الأخيرة اعتبرت الحرب جريمة أيا كان شكلها ومسبباتها، وكل ما يقود إليها من قول وعمل ومساعدة ومال وتشجيع وتحريض… هكذا استمرت الحرب في محاولة لجمها بدون أمل كبير، ولم يأت الفتح المبين من دجل السياسيين ولا من مواعظ الأخلاقيين، ولا من الكتب المنزلة.
ولم يعلن موت مؤسسة الحرب إلا العلم، حين صعد الفطر النووي إلى ارتفاع 5 كيلومترات في السماوات العلى، وكان ذلك عام 1945 م في صبيحة يوم 16 يوليوز، عند الفجر وبالضبط في الساعة الخامسة والنصف، بصحراء آلامو جوردو، مع تجريب أعظم سلاح، لم يخطر في بال آلهة الأولمب ذاتها. فقد استعير وقود الشمس فاشتعلت به الأرض؛ فكانت كثيبا مهيلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى