فلسفة الألم
بقلم: خالص جلبي
الألم جيد ومفيد ولكن كيف؟ نحن الأطباء نعرف هذا جيدا. فنحن نفهمه أنه ومنه بدأت الحياة، حملته أمه كرها ووضعته كرها. والأخص الألم المعنوي وليس الجسدي فهو أكثر من جيد، ولولا تلك الليلة الرهيبة التي قذف فيها غاندي من القطار، لأنه سمح لنفسه أن يركب في الدرجة الأولى مع البيض، لما عرف معنى الاضطهاد العنصري. وفي تلك الليلة تحديدا كما يذكر في كتابه «تجاربي مع الحقيقة»، فتح عينيه على معنى اضطهاد الإنسان وتحول المجتمع إلى فرعوني في شرائح وشيع يذيق بعضهم بأس بعض. وفي تلك الليلة ولد مبدأ «اللاعنف» و«الساتيا جراها = حب الحقيقة». وأنا أنصح قارئي أن يتصفح مذكرات الرجل، أو على الأقل مشاهدة فيلمه الطويل في ثلاث ساعات، كيف روض نفسه على الطريقة الجديدة في المقاومة في وجه الحكومة العنصرية في جنوب إفريقيا، ولقد سألته صحفية أمريكية ما كان فاعلا في وجه حكومة من نوعية هتلر والحزب النازي، أو عندنا في سوريا في وجه البراميلي الذي هدم البلد وسلمه إلى قوى خارجية، وفرقع فوق رؤوس الناس بسبعين ألف برميل، وفي عام 2013 لم يتورع عن استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، فقتل 1400 في ثوان، منهم حوالي 400 طفل. كان غاندي في مواجهة مثل هذه الأمور القادمة من مدرسة إبليس، أن الألم حاصل في المقاومة بهذه الطريقة أو تلك، ولكن مشكلة الاعتماد على السلام تعيد إلى الذاكرة مقالة يسوع المسيح إلى بطرس وهو يضرب عبد رئيس الكهنة، الذي جاء مع الجند لإلقاء القبض على المسيح قال له بطرس: «أغمد سيفك لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك». هذه القوانين في علم الاجتماع تنبثق بالأصل من عالم الجسد والفسيولوجيا أيضا.
السؤال يتكرر ويكرره الثوار في كل مكان، كيف الخروج من مثل هذا الجحيم الأرضي؟ لذا أقول في فلسفة الألم إنه مفيد جدا، لأنه ينبه إلى أن هناك خللا في الجسم. فالقولنج الكلوي جرس إنذار أن هناك حصاة معيقة للتدفق البولي، وأن جهاز التنقية في البدن معرض برمته للانهيار، لذا كانت محطات الإنذار في الجسم من الحرارة والألم مفيدة أن هناك خللا يجب معالجته تماما، كما هو الحال من الأنوار الحمراء التي تلتمع عندما تصاب فرامل السيارة بالعطب أو التآكل، وهي في الجسم الألم.
وعند حصول الالتهاب في أي مكان يعرف الأطباء تماما أن هناك أربعة مؤشرات تفيد بذلك، فالمكان «ينتفخ» و«يؤلم» و«يحمر» و«يسخن». أي أن هناك أربعة أنوار حمراء وليس واحدا كمؤشرات لحصول الخلل، فتبارك الله رب العالمين الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. مكان الالتهاب يسخن والجلد فوقه يحمر، والانتفاخ يقود إلى اختناق الأعصاب في المنطقة، وهي بدورها تحرض الألم، فهذه هي آلية حدوث الألم، أنه اختناق أعصاب المنطقة بالاحتقان الالتهابي. ويمكن نقل التشبيه إلى علم الاجتماع في الفرق بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي، فالاحتلال واضح ومؤلم ومقاومته سهلة، أما السرطان فهو على العكس تماما غير مؤلم وخفي وخطير للغاية، وقد لا ينفع فيه علاج إذا تمدد وانتشر إلى العقد اللمفاوية، كما في سرطان الجلد القتاميني «Melanoma».
ولكن أعجب الألم هو «الصداع»، فالدماغ ذلك الكمبيوتر الحساس يتأثر بأقل المسببات، لأنه بني في غاية الدقة، وهناك كما يقول الأطباء 99 سببا للصداع. إذا كان ألم «التهاب المرارة» ينتشر في أعلى منطقة البطن الأيمن، وينتشر الى الكتف الأيمن، وقولنج حصاة الكلية ينزل من الظهر والخاصرة إلى الأسفل حتى الأعضاء التناسلية، وألم احتشاء القلب يمتد إلى الصدر حتى الكتف الأيسر وأحيانا الفك، فإن ألم الدماغ هو الصداع.
الألم في الجسم كما نرى مفيد كجرس إنذار خاص للانتباه إليه ومعالجته، والصداع في الرأس هو ألم الدماغ بمائة سبب وبأقل المؤشرات الداخلية، من نقص السكر أو الإمساك أو ارتفاع الضغط الدموي. ولكن ألم الروح واختناقها من نوع مختلف، ولقد خلقنا الإنسان في كبد.
هنا نأتي إلى الألم المعنوي فهو محرض جيد، لأنه يفتح العين على مأساة الحياة وأنها أحيانا تراجيديا كاملة. ولقد قرأت كتاب «آخر الراحلين» أو «اكتشاف أمريكا ـ مسألة الآخر» فبكيت من فرط التأثر، وحين وقع تحت يدي كتاب «تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم»، جعلني أرتجف من هول المعاناة التي تعرض لها مجموعة من الناس، دخلوا السجن 20 سنة مثل أصحاب الكهف بدون نور في قبور حقيقية، والفرق أن هؤلاء ناموا، أما هنا فكانوا بكامل وعيهم وشربوا كأس المعاناة حتى الثمالة. وأنا أجد أعظم اللذات في مطالعة كتاب جديد، ولقد جعلت لنفسي عادة أنصح بها القارئ، وهي اصطحابه كتابا مسليا أو أكثر في كل رحلة، فلا يضيع الوقت إلا في المفيد، وكن عالما أو متعلما أو محبا للعلم، ولا تكن الرابعة فتهلك.
أقول إن المعاناة هي التي تخلق الإنسان، وإن الإنسان في ظروف المعاناة والمحنة يتشكل تشكلا خاصا، أقرب إلى الحديد الذي يذوب في النار، «ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال».
النار تصفي المعدن من الشوائب، والمحنة تطهر قلب الإنسان من غرور العالم، كما جاء في الإنجيل وهو يضرب مثل الزرع والزارع. ولذلك كانت المعاناة والمحنة قانونا أبديا «الم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين كذبوا وليعلمن الصادقين»، ولكن كل المفاجأة أن الابتلاء هو ليس في السجن ومصادرة الحرية أو التعرض للضغط النفسي بالاضطهاد، فهذه تستنفر الطاقة للمواجهة. هل تعلمون ما هو أعظم الابتلاء؟ إنه بالمال والنعمة والخير الوفير «ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون»، فهذا قلب جديد لمفهوم الألم والمحنة والابتلاء.