شوف تشوف

الرأي

فكرة المعجزة وترسيخ العقل المنهجي

بقلم: خالص جلبي

لنتناول قصة أصحاب الكهف؛ فالقرآن تقصد أن لا يذكر أسماءهم ولا مكانهم، ولا الوقت التاريخي للحدث العجيب الذي حدث معهم، في الوقت نفسه الذي يمطط إمكانية الفهم الإنساني ليرى أبعادا جديدة في إمكانيات جديدة، من أمثال بقاء الإنسان على قيد الحياة في حالة ما يشبه السبات الشتوي لمدة تزيد على ثلاثة قرون.
إن المفسرين حاولوا وعجزوا في ذكر المكان وأسماء الفتية، بل ربما لون الكلب وطول ذنبه وشكله. (راجع في هذا كتب التفسير: النسفي- ابن كثير- القرطبي- الكشاف، عن اسم المدينة وأسماء الفتية والاختلاف حول اسم الكلب ولونه).
جاء في تفسير القرطبي عن اسم الكلب ولونه ما يلي: («واختلف في لونه اختلافا كثيرا حتى قيل لون الحجر ولون السماء. واختلف أيضا في اسمه: ريان، قطمير، مشير، بسيط، صهيل، نقيا، قطفير!»).
وأضيف هنا أنني اكتشفت في أحد الأيام هذه الملاحظة من كتب التفسير عند كلمة السياحة، ففي سورة آل عمران توجد كلمة (السياحة)، انظر الآية: (التائبون العابدون السائحون) وهي تخص الذكور كما ترى. إلا أنه توجد كلمة السياحة مرة أخرى، ولكنها تخص الإناث، اقرأ الآية: (عسى ربه إن طلقكن ……. قانتات تائبات عابدات ســائحـات). ولفظة السياحة معروفة، إلا أن المفسرين وقفوا مترددين أمام هذه الصفة التفضيلية لنوع من النساء أراد الله أن يكرم نبيه به، هذه الميزة الجديدة لنوع من النساء تتحرك وتسيح في الأرض. كيف يمكن تفسيرها؟ لقد خرج المفسر القديم بأنها (الصيام)، فقلت يا سبحان الله الكلمة نفسها تنقلب بسحر ساحر من معنى السياحة إلى معنى الصوم. فتذكرت عند ذلك قصة الملا الكردي والتلميذ والأفعى والفأرة (شذ عن هذا المفسر المحدث نسبيا القاسمي، حيث جاء في تفسيره تحت تنبيه: (ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من (سائحات) صائمات أو مهاجرات. وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير (السائحون) أن الحق فيه هو المعنى الحقيقي، لعدم ما يمنع منه، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين: (إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء، كما هي كذلك للرجال، فمعنى قوله تعالى: سائحات مسافرات، سواء كان لهجرة أو اعتبار أو اطلاع على آثار الأمم البائدة … ثم قال كأن الذي دعا البعض لتفسير السائحات بالصائمات أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد)). (تفسير القاسمي – ص 224 – 225 نقل متفرق).
وكل هذا إن دل على شيء فهو يدل على العقلية والثقافة اللتين كانتا تتعامل مع النصوص، لذا لاغرابة إن رأينا أن ابن كثير استهوته كثيرا قصة (هاروت وماروت) فكتب فيها عشر صفحات، في حين أن سيد قطب استهوته فكرة الحاكمية (اجعلني على خزائن الأرض) فكتب فيها قريبا من ذلك.
(عند الأكراد يسمى الشيخ الذي يدرس الدين الملا، فكان يقرأ على طلابه نصا باللغة العربية من كتاب فقهي: إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حية (أي على قيد الحياة) يبقى السمن حلالا. قال الملا بالكردية: (داركات ماعر)، أي خرجت ثعبانا!
قال أحد التلاميذ: (يا ملا كيف دخلت في السمن وهي فأرة، ثم تحولت لتخرج ثعبانا؟)، قال الملا: (اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر)).
فلا حرج من أجل أفكارنا وأوهامنا أن نوقع الكون وسننه في حالة تناقض. وهكذا كتبت السيرة أيضا، حيث سجلت أحداثها (كرونولوجيا) على أساس مسلسل متتابع من الغزوات كأن الرسول كان لا ينام إلا على غزوة، ولا يستيقظ إلا على معركة (المصطلق، قرد، ذات الرقاع، مؤتة، خيبر .. الخ)، كما كتبت أيضا مضمخة بعبق الأجواء السحرية فكلها أيضا (سلسلة من المعجزات)، مع أن القرآن رسم منهجيته الخاصة بأنه لن يمارس المعجزات، لأن الكون يقوم على السنن وهو بصدد إرساء وترسيخ العقل المنهجي.
تأمل هذه الآيات ونظيرها عشرات من الآيات المتفرقة في القرآن على الطريقة نفسها: (وقالوا لن نؤمن لك حتى: ماذا؟ تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا… الخ). إلى آخر الطلبات الصبيانية بفتح بئر ارتوازية، أو حديقة لشرب (كوب من القهوة أو الشاي)، أو إدخال الخلل إلى النظام الكوني في صورة هدم السماوات، أو أن يأتي الله مع الملائكة في ما يشبه الاستعراض العسكري كي يقف أهل قريش أمام هذا المنظر الخلاب! بعدها يفكروا في إمكانية منح محمد (ص) الثقة لكلامه. والثقة هي في الأصل من داخل كلامه وليست من خارجه، وهذا هو السر في أن الإسلام لم يعتمد مبدأ المعجزة في حوار الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى