شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

فـي السـلم والسـيادة والاستقرار

 

 

عبد الإله بلقزيز

 

بين السيادة واستقلال القرار الوطني، من جهة، والسـلم المدنية، من جهة أخرى، علاقـة وثيقة لا تتبيـن إلا حين يـدرك مقدار العائدات السياسية الجزيلة للسـلم المدنية على الاستقرار السياسي الداخلي، وعلى انتظام أحوال الاجتماع السياسي كلـه واتجاه صراعات قواه الاجتماعية إلى التعبير عن نفسها تعبيرا سلميـا، ومن طريق التوافـقات التي تحفظ مصالح الجميع.

والحق أن هذا كـله مما يدرك من مجرد تـصفح أحوال الدول الوطنية الحديثة التي نعمت بالاستقرار، فهيأ لها ذلك أسباب التـقدم والبناء الحضاري، وجنبها المرور بتجارب الصدامات المريرة بين قواها الاجتماعية والاكتواء بنيران نتائجها الضارة عليها وعلى مجتمعاتها. ليس من شك في أن عائدات السلم المدنية على الداخل الاجتماعي والسياسي تمتد لتشمل بثمراتها موقع الدولة الوطنية تجاه خارجها الإقليمي والدولي؛ وذلك من طريق تنمية شروط تحصين السيادة واستقلالية القرار الوطني؛ إذ بين الفضاءين الداخلي والخارجي للدولة علاقة طردية موضوعية، بحيث تصب أحوال الواحد منهما في الآخر: سلبا وإيجابا، ارتكاسا وتقـدما. لِنـلقِ ضوءا سريعـا على هذه الصلة بين الأمرين.

أيـسر السبـل إلى النيل من سيادة دولـة ومصادرة قرارها الوطني هو اللعب على أوتار تناقضاتها الداخلية وتسخيرها لمصلحة إرادة إضعاف مركز الدولة تجاه العالم، بما يمهـد للتدخـل في شؤونها من طرف القوى الكبرى؛ إما بالوكالة عنها أو منها مباشرة. ومع أن التناقض قانون اجتماعي لا يـعرى منه مجتمع ولو عظم شأن تماسكـه الداخلي وتـراص قـواه، إلا أن احتداد وتائره واستفحال أحواله قد يأخذه إلى التعبير عن نفسه انفجاريـا: في صورة نزاعات أهلـية دمويـة أو، على الأقـل، في صورة نزاعات معقـدة تـفـلت من كـل عـقال وتضحى عصيـة على أي ضبـط قانوني أو احتواء سياسي من قبل الدولة. وقد لا تصل حـدة النزاعات الداخلية إلى هذا الحد الذي تنهار فيه قدرة الضبط والردع السياسيين، بل تتفاقم على نحو غير انفجاري مصحوبة بارتفاع العقائر اشتكاء إلى العالم من هذا الفريق الاجتماعي أو ذاك ممن يرفعون مظـلمتهم – أو ما يزعمون أنها كذلك – إلى ذلك العالم الخارجي استدراجا له إلى المداخلة للإنصاف…إلخ! في جميعِ هذه الأحوال، تجد الدولة نفسها في موقع دفاعي مزدوج: تجاه جماعاتها الأهلية المتنازعة – أو بعض القوى المتمردة على قرارها – وتجاه خارج متربـص ومتحين فرصة التدخـل والمساس بالسيادة.

من نافلة القـول إن هذه الحال الكالحة تأتي، في الغالب، ثمـرة لمعاناة مجتمع سياسي ما نقصا حادا في السلم المدنية لديه: أي التي لم تتحـول فيه بعد إلى قانون حاكم للنظام الاجتماعي ولم تتشبع بأحكامها علاقات قواه. وهذه، من غير جدال، حال مثالية لممارسة الضغط الدولي على السيادات الوطنية وغالبا من خلف الزعم بالرغبة في حماية حقوق الإنسان، أو حماية القِـلات (الأقـوامية والدينية…)، وإنفاذ التشريعات الدولية الخاصة بكفالة تلك الحقوق.  وليس شرطا أن يدخل الأجنبي إلى داخل حومة السيادة متوسلا جماعة ما متظلمة فيسخرها أداة له، بل يكفي أن ترفع هذه الصوت عاليا مطالبة برفع الغـبن عنها حتى تخف قـوى الضغط لالتقاط مطالباتها وتـوسـلها أداة – أو مطيـة – للتدخـل! واليوم، يتعزز هذا المنحى إلى المزيد من اختراق السيادات الوطنية عملا بمبدأ «حق التـدخل» الدولي؛ الحق الذي يمارس بانتقائيـة بالغة تعبـر عن فجور سياسة المعايير المزدوجة!

واضح، إذن، أن فعـل الاختراق الخارجي للسيادة الوطنية تنمو شروطه بين شقوق تصدعات السلم المدنية كمثل نمو الفطـريـات والأعشاب البريـة بين تشقـقات الخرائب. لذلك لا سبيل إلى كف مثل تلك الاستباحات الأجنبية للسيادات إلا من طريق تمتين نسيج الوحدة الوطنية؛ ولا يكون ذلك إلا بتحقيق السلم المدنية وتعهدها الدائب بالصيانة والتعزيز. إن السلم المدنية هي أسمـنت السيادة واستقلالية القرار الوطني في نموذج الدولة الوطنية الحديثة، التي لا قيام لها من دون سيادة. ولكن، هل يستفاد من الإلحاح على هذه الفكرة أن قيام سلم مدنية قرينةٌ على إنهاء حالة الصراع داخل المجتمع؛ وهل مثـل هذا ممكن حـقـا؟

لعل هذا الاعتقاد من أكثر الأخطاء شيوعا في البيئات السياسية، خاصـة في البيئات اليساريـة المزدحمة بأفكار الصراع والثـورة. مـوطن الخطأ فيه في ترجمته معنى السلم الاجتماعية بزوال التناقضات من قلب المجتمع، وهذا معنى لا يطابق مفهوم السلم المدنية بمقدار ما هو يتعامى عن الأسباب التي تنجب التناقضات الاجتماعية، على نحو موضوعي، وتفضي إلى أنواع مختلفة من الصراع بين قوى المجتمع. ليس لأي سلم مدنية أن تـنهي تناقضا أو صراعا في أي مجتمع تستـتب فيه، لأن مبنى التناقضات والصراعات بين قوى أي مجتمع – وكل مجتمع – إنما هو على تبايـن المصالح بينها. المجتمع فضاء للمصالح، والصراع على تلك المصالح بين القوى – حيازة لها أو تعظيما وتنمية – سنة من سنن الاجتماع الإنساني لا سبيل إلى تخيـل نهاية لها، حتى لو أخذنا بفرضية زوال المجتمع الطبقي في مرحلة ما من التطـور. كل الذي تـتيحه السلم المدنية هو تهذيب تلك الصراعات الاجتماعية وتنظيمها وترشيدها، بحيث لا تخرج عن قواعدها السلمية وتتحول إلى حرب أهلية ونزاعات مسلحة. هدفها، إذن، وضع قواعد وضوابط لكل صراعٍ اجتماعي، بحيث يسلك طريق المنافسة السياسية النظيفة من كل عـنف. ماذا يعني النظام الديمقراطي، مثلا، غير هذا المعنى؟

 

نافذة:

أيـسر السبـل إلى النيل من سيادة دولـة ومصادرة قرارها الوطني هو اللعب على أوتار تناقضاتها الداخلية وتسخيرها لمصلحة إرادة إضعاف مركز الدولة تجاه العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى