فريدة بليزيد «الجمهور هو نفسه أينما ذهبت»
يونس وانعيمي
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.
الصعوبة الثانية تكمن في «بلاغة وبيان» أسماء هذه اللائحة وما لها من اتصال مع ما نصبو إليه..، لأن الحضارة ما هي سوى وعي مسترسل للذات الفردية بالحاضر المندمج في وعيها بالماضي من أجل حرية المستقبل. وهو وعي مركب يساهم فيه «وسطاء» هم مثقفون يدورون (على اختلاف مشاربهم) في فلك التفكير بالذات (من نحن؟) للخلاص من قيودها (كيف نبلغ الحرية؟). سنتطرق لأسماء نؤمن بأنها طبعت تاريخنا الثقافي وطبعت وعينا بذواتنا كمغاربة، ولكن ليست لنا من هذا غايات سردية بيوغرافية حصرية؛ لأننا نظن أن ما يهمنا أكثر ليس كيف عاشوا كأفراد، بل تهمنا فاعلياتهم كمفكرين وماذا أنتجوا، وما يمكن لنا أن نستشف من مغامراتهم في الإجابة عن سؤال (من نحن بالذات في التاريخ والفلسفة والأدب والفن والسياسة؟ وكيف لنا الخلاص نحو الحرية بمعانيها الكاملة؟).
هي من الرعيل الأول لنساء الصورة، رسخت حضورها الفني من خلال أعمال انتصرت لقضايا المرأة، ورفدت مسيرتها الفنية بفيلم عن إحدى أهم القضايا الوطنية: قضية الصحراء، وهو فيلم «حدود». وذلك انطلاقا من افتخارها بالانتماء للوطن، وغيرتها عليه.
لم تفارقها أبدا المقاربة الدولية كصيغة اشتغال، وهي تتعرض لقضايا التعدد الثقافي أو الحرية كمبدعة متعددة الثقافات والرؤى، مع ذلك هي من أكثر المدافعين والملتصقين بالتراث المغربي الذي تشتغل عليه بنفس آخر. البساطة والصراحة أهم الصفات الإنسانية التي تتمتع بها فريدة بليزيد، المخرجة والكاتبة، التي استضافتنا في بيتها بقلب قصبة مدينة طنجة، معلنة انحيازها للتراث والتاريخ المغربي وتمسكها بقضايا الناس. في أحد الحوارات قاد النقاش حول الأعمال المغربية فريدة بليزيد إلى الجدل الذي أثير خلال رمضان عن صورة المرأة في الدراما، فكان أن بدأ اللقاء بقضية تستأثر باهتمامها.
مخرجة ملتزمة
كمخرجة ملتزمة بقضايا المساواة، تابعت بليزيد الجدل القائم اليوم حول صورة المرأة المغربية في الدراما العربية والمغربية، ولم تخف حساسية الموضوع بالنسبة لها، خصوصا وهي واحدة من بين صناع تلك الصورة.
بالنسبة لفريدة، فإن صورة المرأة في المغرب، في الغالب، محترمة، وتعتقد أن الدراما في المغرب قدمت صورة جيدة عن المرأة المغربية، حتى لو تم تقديمها دائما كمغلوبة وضحية، وهذه الصورة موجودة في المجتمع وفي الواقع، ولذلك قدمتها الدراما ولم تخترعها، وتعتقد بصدق، كما غالبية المخرجات، أن المرأة المغربية في الدراما لها حضور قد لا تتمتع فيه في مصر حيث أثير الجدل من ناحية الشخصيات التي قدمت والكليشيهات السلبية جدا حول المرأة المصرية.
تقر فريدة بليزيد بأن الصورة حول المرأة المغربية في الدراما المغربية ليست بتلك القتامة التي تحاول بعض النسويات ترويجها. فإذا أخذنا عملا مثل «بنات لالة منانة» الذي كُتب كعمل مسرحي من طرف نساء، وتقدمه نساء، ثم تحول إلى عمل تلفزيوني، كلهن مثقفات حاضرات بقوة وكل ممثلة فيه لها حضورها الخاص.
لكن فريدة بليزيد ظلت من بين المؤمنين بضرورة تحسين وتحيين العمل التلفزي عموما المستعمل والمروج بشكل غير صائب للقيم المجتمعية المغربية. فإذا كانت للتلفزيون خصوصيات وبعض صناع الأعمال الدرامية يميلون لتقديم المرأة العروبية «الغبية الغيورة» بشكل نمطي، فإن ذلك لا يعني أن هذا هو «البروفيل» الوحيد بالمغرب، وتعتقد بليزيد أن ذلك يحدث بسبب تركّز شركات الإنتاج بالدار البيضاء والرباط، وبالتالي تقدم «بروفيلات» من نوع ما ولأهداف تجارية محددة.
لكن السينما، بالنسبة للمخرجة، تبدو وتظل أكثر انفتاحا في تقديم وجوه وشخصيات مختلفة. لقد بدأت النساء مشوار السينما متأخرات، لكن كان هناك وعي منذ البداية بقضية المرأة، فأول فيلم كتبته بليزيد كان فيلم «عرائس من قصب» وتعرض لمشكل المرأة التي تظهر عليها علامات الحمل من علاقة تمت خارج مؤسسة الزواج، كتبت بعد ذلك كثيرا عن القانون والمدونة التي كانت غير مواكبة، وكانت دائما مؤمنة بأن المرأة سباقة على القانون الذي لا يضمن تحررها لوحده حيث المدخل الفني التحسيسي الملتزم أحد مداخل التغيير وتطوير العقليات.
هواجس تجارية
في الواقع، تعترف فريدة بليزيد بل وتفتخر دوما، في حواراتها القليلة، بأنه كان هناك وعي بهذه المشاكل الاجتماعية الحساسة من طرف المخرجين، حيث طلب منها المخرج محمد عبد الرحمن التازي، كتابة بعض الأفلام، منها الفيلم الرائع «باديس» وفيلم «البحث عن زوج امرأتي» وغيرهما..، وتلخص بليزيد أن الوعي بحقوق النساء كان حاضرا في السينما المغربية ولدى الرواد، بل كانت السنيما دوما حاملة لهذا الوعي بواقع المرأة وأهمية العمل على تجاوزه فنيا.
في مقابل ذلك، تعترف الأستاذة بليزيد بأن التركيز المفرط نوعا ما للسينما حول المرأة وقضاياها لم يكن دوما بفعل هواجس حقوقية، لكن تحت طائلة هواجس تجارية، حيث ظل موضوع المرأة وسيظل في السينما المغربية كما العالمية موضوعا بائعا (vendant).
لكن، مع ذلك، لا يمكن إنكار أن قضية المرأة عرفت بعض التحرك والتطور من ناحية الاتجاه العام في البلاد. اليوم وقد بلغت فريدة بليزيد مرحلة من العمر والنضج والتراكم الفني تتيح لها أن ترى أشياء كثيرة قد تغيّرت، تقول فريدة بليزيد في أحد حواراتها:
«قدمت الكثير مما أردت قوله، لن أكرر نفسي، اليوم يهمني أن نبني العالم وفيه المرأة وليس المرأة بمفردها، طبعا يسعدني أن أعاصر هذه المرحلة حيث ازداد الوعي النسوي، هناك جمعيات كثيرة وتطور مهم يستطيع جيلي أن يلاحظه عكس الشباب الذي لا يرى هذا الفرق لأنه جاء في مرحلة تغيرت فيها الأشياء ولم ير المرحلة الصعبة التي سبقتها، اليوم كل امرأة تدافع عن نفسها وهي تفرض حضورها في كل مجال. أمس، مثلا، وجدت امرأة متحجبة تشتغل مرشدة سياحية، هذا يعني أن المرأة اليوم، لم تعد تقف عند الحواجز، تبقى الإرادة أيضا، فهي ذات أهمية قصوى في كل هذا لأن هناك اتجاها يجر للخلف أيضا، أمس قالت لي سيدة أن إمام المسجد قال لها أن كل ما يقع في العالم سببه حقوق المرأة».
في السينما، بدأت فريدة بليزيد تضجر من مسألة بيداغوجية غاية في الأهمية. تلاحظ أن أعمالها وأعمال غيرها من المخرجين لا تستهدف عادة سوى نفس الشريحة من المجتمع المغربي، وهي شريحة متعلمة من الطبقة الوسطى، منفتحة على العالم والقيم الدولية ولها تطلع إلى التحرر. لكن يبقى من الصعب الوصول إلى الناس الذين لديهم نظرة متطرفة، والتفوق في تغيير مواقفهم حيال الحياة، وهي أسمى رسالة للفن عموما والسينما على وجه الخصوص.
تشتغل فريدة بليزيد حاليا على مشروع يتعلق، أيضا، بالمرأة. رفقة مخرجة إيطالية، اشتغلت على فيلم وثائقي تم تصويره بالمغرب حول المغنيات التقليديات و«الشيخات» و«الرايسات»، وكانت، طوال سنة تقريبا قبل ذلك، تشتغل على أفلام تسجيلية حول الموسيقى والرقص الأمازيغي.
الدور الطبيعي للسينما
ترى فريدة بليزيد أن الاشتغال على التراث الثقافي والخيال المغربي، هو الدور الطبيعي للسينما، فهي لا تهتم كثيرا بالمعاصر أو الراهن لأن الجميع يهتم به، لكنها تضع على عاتقها العودة للتراث لأنه لم يحظ في الفن والسينما سوى باستغلال فلكلوري، وقليل من ذهب لعمق التراث ليبرز مقوماته الحضارية.
في حياتها اليومية، تعيش فريدة بليزيد حياة برجوازية طنجاوية أو سيدة عادية تهتم ببيتها، بل وتجمع بين الاثنين. تقول فريدة: «أولادي لا يعيشون معي لأنهم شبوا عن الطوق، وبدون أبناء يتخفف البرنامج من المسؤوليات، لدي مساعدة لا تداوم بشكل يومي لأني أهتم بأموري، أتسوّق وأطبخ لنفسي، لا أخرج كثيرا من بيتي لكن في الغالب أسافر أو أصوّر أعمالي، أغيب كثيرا وحين أكون بالبيت أحاول أن أستغل الوقت في إعادة ترتيب الأشياء وهذا ما قمت به خلال رمضان. خلال هذه السنة، كنت أمضي أسبوعا بالبيت ثم أسافر ثلاثة أسابيع، في أحيان كثيرة أنسى ترتيب مكان بعض الأغراض المنزلية».
لا تخفي فريدة بليزيد تعاطفها المعلن مع جميع الفنانات المغربيات، لكنها، وبالدرجة الأولى، تفضل الممثلة سامية أقريو، ليس لأنها شمالية لكن لكونها لطيفة خفيفة الظل، وكفنانة وكامرأة مجتهدة مكافحة، تعرف ماذا تريد. ولها توافق كبير أيضا، مع فاطمة الوكيلي، الصحفية والممثلة، سواء في الكتابة أو التمثيل، ودائما ما تجد لها دورا صغيرا في أعمالها.
وعن السؤال حول اضطرارها الجمع بين الإخراج وكتابة السيناريو، تجيب بليزيد دوما بأنهما وجهان لعمل إبداعي واحد، ومن المفيد أن يتمرن المخرجون في كتابة سيناريوهات أو المساهمة في ما هم بصدد إخراجه من نصوص أدبية. ثم غياب صناعة إنتاجية قويمة يفرض على أغلب المخرجين الخوض في الكتابة السينوغرافية، ليس تقشفا بل محاولة منهم التحكم في زمام أكثر الأمور تعقيدا وإبداعا في السينما، ألا وهو السيناريو.
لفريدة بليزيد ارتباط قوي ووثيق بمسقط رأسها طنجة، فهي كأي شخص له ارتباط بمدينته يحبها وتمثّل بالنسبة له الارتباط، لكن طنجة، من ناحية أخرى، «هي صاحبة فضل إذ عشنا نوعا من التحرر والانفتاح على الثقافات منذ الصغر، هناك انفتاح للخيال أيضا، ليس هناك ضغوطات ولذلك هي مدينة تجلب المبدعين من العالم».
لذلك صورت فريدة بليزيد معظم الأعمال فيها إلى أن حولت بوصلتها نحو الجنوب من خلال فيلمها الأخير «حدود» الذي تناول قضية الصحراء.
الصورة النمطية التي نسجت حول المخرجة على أنها لصيقة بطنجة هي صورة غير صحيحة. لم تصور بليزيد فقط في طنجة كما يعتقد البعض، أول أفلامها «باب السماء مفتوح» صورته في فاس بعيدا عن طنجة،. ثم صوّرت «عرائس من قصب» بمدينة الشاون، كذلك صوّرت أعمالها بإفران ومرزوكة والدار البيضاء والصحراء.
حين تتبعت فريدة فيلم «خافيير بارديم» والحملة المغرضة التي شنها على المغرب، جاءتها الغيرة، وقالت إننا نستطيع أن نقدم رأينا مقابل ما يحدث، هذا كان دافعها الأول والأخير في فيلم «حدود». معالجة قضية وطنية في فيلم لا تمنحه في الغالب الحبكة والبهارات التي تجلب الجمهور وهو ليس موضوعا ننسجه لنبيع. يظل فيلم «حدود» فيلما هاما وليس موجها بتاتا للجمهور الواسع.
في سطور
ولدت فريدة بليزيد في مدينة طنجة عام 1948، درست الأدب في جامعة باريس الثامنة، كما درست اﻹخراج السينمائي في المدرسة العليا للدراسات السينمائية بباريس، وقامت بكتابة وإخراج عدد كبير من الأفلام، من أبرزها: (هوية امرأة، باب السماء مفتوح، الدار البيضاء يا الدار البيضاء، خوانيتا بنت طنجة).
بليزيد من النساء اللواتي دخلن عالم الإخراج السينمائي مبكرا في المغرب، والذي كان محصورا على الرجال، وبدون مركب نقص، نجد اسم المخرجة والكاتبة فريدة بليزيد التي تألقت منذ عقود مضت رسمت لنفسها أسلوبها السينمائي الخاص، سواء في أفلامها أو عند كتابتها لسيناريوهات أفلام أخرى..
فريدة، التي تشتغل على التراث الثقافي والمتخيل المغربي، لديها قناعة تجعلها تبتعد عن تصوير المعاصر الراهن لأن الجميع يهتم به، في حين أنها تعتبر أن البحث والتنقيب في كل ما له ارتباط بالتراث، لتقديمه للمشاهد، من صميم أدوارها التي يجب أن تضطلع بها .
مارست فريدة بليزيد الكتابة التي تستهويها كثيرا في عدة منابر إعلامية، على غرار «إلباييس» و«إلموندو»… وتبقى كتابة الرواية حلما لأن الإخراج وكتابة السيناريو يأخذان الكثير من وقتها. فعشقها لعالم السرد جعلها تقتبس «الحياة القاسية لخوانيتا ناربوني» للكاتب أنخيل باثكيث، ونقلها إلى الشاشة الفضية عبر فيلم «خوانيتا بنت طنجة». ولا تتردد فريدة في توجيه انتقاداتها للغرب ونفي تفوقه الأخلاقي والثقافي المزعوم، معلنة أنه باسم الديمقراطية تم ارتكاب مجازر عديدة.
وتعتبر فريدة بليزيد السينمائية المغربية الأكثر انتشارا دوليا.