فرنسا: فن المضي قدما
بيار عقيقي
لم تكن الصفعة التي تلقتها فرنسا في موضوع الغواصات مع أستراليا سوى تأكيد على عدة عوامل. الأول، عدم قدرة الأوروبيين على القيام بدور ريادي في العالم، بل تحولت أوروبا إلى قارة تتلقى الضربات وتتعايش معها. الثاني، فشل أوروبا في إثبات حضورها أمام الأمريكيين والسوفيات في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا أن استنجادها بواشنطن للإطاحة بالاحتلال النازي لها جعلها أسيرة الديون، واستطرادا تابعة سياسيا للولايات المتحدة. مع العلم أن الانخراط الأمريكي في الحرب العالمية الأولى لمصلحة الحلفاء، شكل بداية انحدار القيادة الأوروبية للعالم. الثالث، تمحور في فشل أوروبا في ترجمة اتحادها وتحول دولها إلى عملة اليورو، في التغلغل في الأسواق العالمية من موقع قيادي، بل دائما ما كانت «الطرف الثانوي» في أي سوق، و«الطرف الأول» الذي يتحمل الخسائر في أي أزمة مالية. الرابع، عجز أوروبا، على الرغم من اتحادها وقوة مؤسساتها القارية، عن نقل هذا الاتحاد إلى شعوبها التي تعاني من أزمات ثقافية متلاحقة، ما يدفعها، في أي لحظة اقتصادية أو صحية سلبية، إلى المطالبة بالخروج من الاتحاد، كما حصل مع إيطاليا في فترة كورونا العام الماضي، ومع اليونان وبولندا. وإذا كان الثلاثي المذكور لم يقرن القول بالفعل، إلا أن بريطانيا وضعت حدا لعلاقة دامت نحو 50 عاما مع بروكسيل، مفضلة التوجه غربا، والانغماس أكثر في المعسكر الأنغلوساكسوني.
هذه العوامل، مضافا إليها عجز أوروبا عن التفرد بسوق الغاز، واضطرار أكبر دولها، ألمانيا، إلى عقد الاتفاقيات مع روسيا لنقل الغاز عبر البلطيق إليها، لم يضرب فقط استقرارا أوروبيا، بل دفع دولة مثل أوكرانيا إلى التفكير في جدوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلا.
لا تتصرف أوروبا ككيان موحد، على الرغم من أن دستور الاتحاد الأوروبي ينص على ذلك، بل على العكس، ففرنسا التي شعرت بالإهانة والطعن بالظهر في موضوع الغواصات تلقت ضربات مماثلة من سويسرا التي تخلت عن صفقة طائرات عسكرية فرنسية، ومن رومانيا التي أدارت وجهها عن صفقة طرادات بحرية فرنسية.
وسط هذا كله، تبدو ألمانيا التي قادتها مستشارتها أنجيلا ميركل في السنوات الـ16 الماضية، تتصدر الواجهة الأوروبية، وتتمركز في زاوية أساسية بالعالم، من دون إبداء طموحات أممية، ولا التقليل من قوة نفوذها الأوروبي، مهددة بمرحلة من انعدام الاستقرار، بعد طي صفحة ميركل. يعود ذلك إلى أن خَلفها، أرمين لاشيت، أمضى صيفا مروعا، مساهما في تراجع شعبية «الاتحاد المسيحي»، المكون من حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي. وهو ما سيدفع برلين إلى الانشغال بمشكلاتها الداخلية، التي ربما قد تصل إلى إجراء انتخابات مبكرة.
وسط هذا كله، أي جيش أوروبي مستقبلي سيتشكل؟ وما هي أسسه، وكيف يمكن تمتين وحدته في أي حرب، طالما أن للخصوم المفترضين، ولو كانوا حلفاء حاليا، حلفاء أوروبيين؟ روسيا مثلا ما زالت صديقة لدول، مثل المجر وصربيا. الولايات المتحدة حليفة لبولندا وتشيكيا وليتوانيا وإستونيا والدنمارك والنرويج والسويد. قائدتا المعسكر الأوروبي، فرنسا وألمانيا، غير قادرتين على صياغة وحدة قارية فعلية. يبقى حل واحد: قبول فرنسا الصفعات والمضي قدما.