شوف تشوف

الرأي

فرنسا خسرت إفريقيا

توفيق رباحي
طلب الرئيس الفرنسي من قادة دول إفريقية اجتمع بهم في مدينة بو، في الثالث عشر من الشهر الجاري، التوقيع جماعيا على وثيقة يعبرون فيها عن رغبتهم في حفاظ فرنسا على وجودها العسكري في بلدانهم. وقد فعلوا من دون تردد، على ما يبدو.
احتفى الكثير من الإعلام الفرنسي بهذا الموقف واعتبره نجاحا دبلوماسيا، لأن باريس انتظرته طويلا وبهذا الوضوح. وعلى الرغم من أن فرنسا لم تُظهِر أي بوادر على نية أو رغبة في الانسحاب، فضل ماكرون الحصول على دعم معنوي يعزي به نفسه وجيشه.
يجوز اعتبار توقيع قادة «مجموعة الـ5» الأفارقة (موريتانيا، مالي، بوركينا فاسو، النيجر وتشاد) على تلك الوثيقة نصرا دبلوماسيا لماكرون شخصيا ولفرنسا، لكن لا يمكن إغفال أنه نصر دبلوماسي وسط بحر من الإخفاقات.
فرنسا تعاني الكثير بمنطقة الساحل الإفريقي، لكنها تعيش حالة إنكار. تعاني ميدانيا ـ عسكريا مع العجز عن التقدم وتوالي الانتكاسات. وتعاني دبلوماسيا مع امتناع الدول الأوربية وأمريكا عن الحضور عسكريا في دول الساحل بالشكل الذي تريده باريس. وتعاني من تنامي مشاعر الرفض لها في الدول المعنية مع خروج مظاهرات تطالب بطرد القوات الفرنسية.
موقع «ميديابارت» الفرنسي نشر تحقيقا مطولا عن «خسارة فرنسا» ثقة سكان منطقة الساحل. يستنتج الموقع المعروف بصدقيته وصرامته المهنية، أن القوات الفرنسية في الساحل باتت مرفوضة شعبيا ويُنظر لها كقوة استعمارية. وتضمن التحقيق شهادات ميدانية لبعض الأهالي عن تعامل القوات الفرنسية معهم بعقلية استعمارية، تذكر بممارسات الجنود والضباط الفرنسيين مع الأهالي في أرياف الجزائر أثناء حرب الاستقلال (1954 ـ 1962).
هذه الخلطة المعقدة هي التي اضطرت الرئيس ماكرون إلى الضغط على القادة الأفارقة المجتمعين في ضيافته للتوقيع على وثيقة تمنحه شرعية معنوية، على الرغم من أنها لن تغير شيئا على الأرض لأن القادة الخمسة هم ذاتهم يفتقدون للشرعية في بلدانهم. اضطر ماكرون إلى هذا التصرف مع ضيوفه، لأنه أدرك أن الوقت ليس في صالحه. وأيقن أن العد التنازلي قد بدأ.
ميدانيا، لا يوجد ما يوحي بأن الجنود الفرنسيين يحققون انتصارات على المجموعات الإرهابية. ما يجعل مهمتهم معقدة أنهم يواجهون مجموعات هلامية ليس لديها ما تخسر، تتداخل فيها العوامل العرقية مع العقائدية مضافا لها الدوافع الجنائية (قطاع طرق ومهربون). وما يزيد الأمر صعوبة أكثر على أي دخيل على المنطقة ونسيجها الاجتماعي، أن تحالفات هذه المجموعات تتغير وفق الحاجة والمصلحة. لكن يبقى ثابت هو أن الفرنسيين أعداء يتوجب قتالهم.
لكن الأسوأ من العجز عن تحقيق انتصارات، تكبد الفرنسيين خسائر بشرية فادحة في هجمات مباغتة يشنها جهاديون على مواقعهم، أو بنيران صديقة. آخر ما في هذا الصدد مقتل 13 جنديا فرنسيا في تصادم مروحيتين، في الأسبوع الأخير من نونبر الماضي.
سبع سنوات مضت على الانتشار العسكري الفرنسي في المنطقة، ولم يحقق تقدما يذكر. وليس في الأفق أي معالم لنهاية واضحة.
احتج ماكرون على صحافي من مالي سأله، على هامش اجتماع بو، عن مشاعر الرفض للوجود الفرنسي في دول الساحل. قال ماكرون بانفعال إن المحرضين على كره الجنود الفرنسيين يخدمون مصلحة الإرهابيين وشركات تجنيد المرتزقة (تلميح لروسيا على ما يبدو). يحمل جواب الرئيس الفرنسي إنكارا آخر يحصر الموضوع كله في محاربة الإرهاب. لكن الإرهاب مجرد عنوان لتبرير نوايا استعمارية جديدة، يشجعها ماكرون، كان لها الفضل في وجود (و/أو استمرار) قادة أفارقة طغاة وفاسدين يدينون بالولاء لفرنسا. ومحاربة الإرهاب مجرد مطية لمواصلة الشركات الفرنسية والعالمية نهب خيرات الشعوب الإفريقية.
في جواب الرئيس الفرنسي إنكار أيضا أن هذا الزمن زمن الشعوب وليس زمن الرؤساء، في إفريقيا والعالم. والشعوب، في إفريقيا وفي غيرها، استيقظت من سباتها. يستطيع ماكرون أن ينتزع توقيعات دعم من كل الرؤساء الأفارقة، لكنها ستبقى حبرا على ورق طالما أنها لم تصدر عن الشعوب أو من يمثلونها حقا، وطالما أن فرنسا، ومع انسحاب أمريكا وتخبط الاتحاد الأوربي (بسبب السياسة الفرنسية العاجزة) والزحف الصيني والروسي والتركي، ستعجز بمفردها عن الحفاظ على الكعكة الإفريقية كما فعلت طيلة العقود الماضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى