فتاوى غريبة حرمت كل ما هو أجنبي
تفاصيل حيل لتصبح «حلالا» أغربها طباعة اسم الله عليها
كان المؤرخ المغربي الشهير الناصري، بالإضافة إلى المختار السوسي، من أهم العلماء والمؤرخين المغاربة الذين وثقوا لفتاوى التحريم التي كان أبطالها علماء من القرويين على وجه الخصوص، بالإضافة إلى علماء آخرين الجامع بينهم كُرههم لدخول الأجانب إلى المغرب، وفتح فروع شركاتهم التجارية في قلب الموانئ المغربية.
حُرم استهلاك السكر والصابون الأوروبي وحتى الشموع.
لكن هذه الممانعة لم تصمد طويلا، وانبرى علماء آخرون كانوا أكثر فهما للأمور، وأعلنوا أنهم يستهلكون السكر المستورد، وأنه ليس محرما.
الحرب ضد الأوروبيين كانت وراء تحريم كل ما يأتي من الخارج
«كان المدخل الذي مارس فيه الفقهاء مناقشاتهم وتأويلاتهم حول البضائع التجارية، سواء منها المغربية أو الأجنبية، هو مدخل الحلال والحرام. فكانت جل المواد الأجنبية تلقى معارضة العلماء كلما وجدوا إلى إثبات حرمتها سبيلا، فتكون الحرمة إما لذات البضاعة كما وقع بالنسبة إلى الخمور والحشيشة والتبغ واللحوم المستوردة، لأنها كالميتة نظرا إلى كونها لم تُذَلَّ شرعاً، ولحم الخنزير والدم المسفوح، وإما لكون البضاعة اختلط بها بعض من هذه المواد في صناعتها، وكذا ما فيه نجاسة. وأدخل بعض العلماء الحشيشة والتبغ لما يلحقانه بالعقل من اضطراب.
وقد ظهرت مع ذلك آراء متباينة في مثل هذه البضائع من قبل العلماء، إذ ظهر نوع من النفور، وطلبوا بقاء ما كان على ما كان دون خرق العوائد المألوفة، كما ظهر مقابل ذلك العزوف عن كل ما هو أجنبي، سواء كان فرنسيا أو إنجليزيا أو إسبانيا، خاصة بعد معركة إيسلي وحرب تطوان، فاعتبروا في بادئ الأمر أن كل ما يرد من البلاد الأجنبية يعد مرفوضا، أو يتعامل معه بنوع من الاحتياط والتريث، ولا بد من مرور بعض الوقت ليصل العلماء إلى مواقف محددة حول هذه البضائع، وذلك رهين بمدى تراكم المعلومات حولها، ومدى القدرة على تأويل النصوص نتيجة إدراك الوقائع، كما هو رهين أيضا بنوع الذهنية المتحكمة في اتخاذ القرار».
هذا الاقتباس مصدره مرجع غاية في الأهمية، رصد تحولات المجتمع المغربي ما بين سنتي 1830 و1912. السنتان تحيلان على التوالي، إلى مرحلة احتلال فرنسا للجزائر، وفرض الحماية على المغرب. وهذا الكتاب الذي يعد بحق دراسة معمقة في التحولات التي عرفها المغرب في مجال التجارة وبنية المجتمع المغربي والتحولات التي طرأت عليه، بسبب التغير في أحوال التجارة وما أدخلته إلى البلاد عن طريق الموانئ. وقد ذهب الباحث المغربي عمر أفا، في التوثيق والتأصيل لعدد من المعطيات التاريخية، وجمع مجموعة من الفتاوى التي ارتبطت بهذه المرحلة التاريخية، وكيف بدأت متطرفة على يد بعض العلماء، قبل أن تُقبر على يد آخرين صححوا المسار وأعلنوا للعموم أن تلك الفتاوى لم يكن لها أي أساس فقهي.
كان الفضل للسفراء المغاربة الذين حلوا في الدول الأوروبية وزاروا بعض مصانعها، خصوصا التي تصنع فيها الأثواب والآلات الكهربائية وحتى السيارات، وعادوا من هناك ليحكوا للعلماء في جامع القرويين، كيف أن ما راج عن تلك الاختراعات والسلع الأجنبية لا أساس له من الصحة. إذ إن أول ظهور للسيارات في مدينة فاس، صاحبته موجة من السخط، وصدرت على الفور فتاوى تحرم ركوب السيارات، على اعتبار أنها تجسيد لقدرات شيطانية وهناك من ربطها بأعمال السحر، والأمر نفسه انطبق على الهاتف، قبل أن يتبين السفراء المغاربة من خلال زياراتهم إلى بعض العواصم الأوروبية منتصف القرن 19، أن الأمر يتعلق باختراعات علمية بتفسير علمي خالص.
كان هؤلاء العلماء المغاربة يملكون الشجاعة فعلا لتصحيح الأمور، وسوف نرى في هذا الملف مثالا على تحريم السكر، إذ ساد الاعتقاد في البداية أن السكر الأحمر الذي كان يصنع على شكل قوالب تُصدر نحو المغرب من طرف شركات بريطانية، يُمزج بدم الخنزير لكي يكتسب تلك الحمرة. لكن وبعد سنوات على فتوى تحريمه، اتضح أن الأمر لا علاقة له بالمواد الحيوانية أصلا، وأعلن بعض العلماء المغاربة، قبل فترة الحماية بسنوات قليلة، أنهم يستهلكون السكر مع الشاي أمام طلبتهم، لإبطال تلك الفتوى التي ظهرت مع بداية انتشار السكر الأوروبي في المغرب.
الطباعة حلت مشكل فتاوى تحريم السلع الأجنبية
موجة التحريم امتدت لكي تطال سلعا، مثل الجبن الرومي وحتى الصابون والشمع الأوروبي. وقد لجأ العلماء المغاربة لتحريم كل هذه السلع وإقناع الناس بصحة تحريمها، إلى اعتبار أن الذين كانوا يشرفون على صناعتها لم يكونوا على طهارة، وهناك إمكانية كبيرة في أن تكون هذه السلع «نجسة»، أو تسربت إليها مواد نجسة تجعل استهلاكها محرما على المسلمين.
حتى أن هناك مؤلفا طريفا، كان رسالة كتبها العالم المغربي الكبير جعفر بن إدريس الكتاني، عنوانها: «حكم صابون الشرق وشمع البوجي وصندوق النار المجلوب ذلك من بلاد الكفار – لعنهم الله- وحكم خياطة أهل الذمة قبحهم الله». وبدا واضحا أن التحامل ضد كل ما هو أجنبي ظاهر من العنوان، ولا حاجة هنا طبعا إلى الاطلاع على مضمون المخطوط كاملا للخروج بخلاصته. فالعنوان لخص كل شيء، وأعلن موقف فريق من نخبة العلماء المغاربة، من السلع التي أغرقت بها السوق المغربية.
كما أن هناك مؤلفا آخر عنوانه: «تحفة السالك الراغب في بيان الحكم في سكر القالب»، لصاحبه محمد العربي الزرهوني. وهناك مؤلفات أخرى انبرى أصحابها لتناول موضوع الفتاوى، وأغلبهم كانوا يؤيدون التحريم على اعتبار أن كل ما يأتي من النصارى محرم، سيما وأن المغرب بعد سنة 1830 كانت تصله أخبار توسع فرنسا في الجزائر واحتلالها للبلاد، بعد سقوط العثمانيين، وكان هناك تخوف من أن يعرف المغرب المصير نفسه. وطبعا، كان وصول السلع الأجنبية إلى الأسواق، بعيون المغاربة، يعني وصول الأجانب لاحقا.
حتى أن بعض المراجع التاريخية ذكرت أن المغاربة توجسوا كثيرا من عملية ضرب العملة التي أريد لها أن تروج في الأسواق المغربية، وكانوا يعتبرونها شكلا من أشكال الاستعمار، وفضل كبار التجار المغاربة وقتها ألا يتعاملوا بها، قبل أن تتغير الأمور وتعرف البلاد تحولات كثيرة، وصار كبار التجار المغاربة يتعاملون بالفرنك، بشكل عادي.
ولم يجد الأجانب بدا من اللجوء إلى حيلة المطبعة لكي يفكوا الحصار الذي ضربته الفتاوى على سلعهم. وقد سجل بعض المؤرخين أن التجار الأجانب لجؤوا في المغرب وفي وهران، إلى طبع اسم الجلالة وبعض الشعارات الإسلامية في أغلفة السلع والصناديق الخشبية التي تُخرن فيها المواد الغذائية، خصوصا لكي «يُطَبِّعَ» الناس معها في الأسواق، وتنتفي عنها صفة التحريم التي روج لها العلماء، وتسببت في خسائر فادحة للشركات الأجنبية.
ومن الأمور التي أثارت الجدل في المغرب بداية القرن 19، ما يتعلق بالتعاطي لأدوية الفرنسيين والبريطانيين. وكان العلماء المغاربة وقتها يجمعونها في سلة واحدة ويطلقون عليها «دواء النصارى». وقد ذكر الكتاني في مرجعه الذي أشرنا إليه أعلاه، ما يلي: «أما أدوية الكفرة وأشربتهم، فإن ذلك مما لا ينبغي استعماله لما عسى أن يقع منهم من استعمال بعض السموم القاتلة في الأدوية، فيكون الإنسان قد تسبب في قتل نفسه وهلاكها، فينبغي تجنب دوائهم والاستغناء بمن ترضى ديانته وأمانته من المسلمين».
فقهاء واجهوا مدّ اقتصاد أوروبا بفتاوى التحريم
عمر أفا، أحد أوائل الأكاديميين الباحثين المغاربة المعاصرين الذين نقبوا في تاريخ «الفتاوى» التي صدرت عن علماء مغاربة، وجمعها مؤرخون أمثال الناصري وعبد الرحمن بن زيدان، قبل أزيد من قرن ونصف القرن، في عز فترة التحول الذي عرفته البلاد عند التدخل الأجنبي الذي مس جوانب التجارة والمال والمجتمع.
يقول هذا الباحث في مؤلفه: «التجارة المغربية في القرن التاسع عشر، البنيات والتحولات»، والذي سلط الضوء على مغرب الفترة ما بين سنتي 1830 و1912، ما يلي:
«تعتبر مسألة التدخل الأجنبي بالمغرب أحد العوامل الأساسية التي حفزت الفقهاء، وأثارت حميتهم الدينية من أجل مواجهة هذا التدخل، ومواجهة كل ما له علاقة بالأجنبي. وانطلاقا من مبدأ حماية البلاد والدفاع عن حوزتها، فقد استنهض الفقهاء عموم المغاربة لمقاومة الأجنبي، وطالبوا بتعبئة الجيش والنهوض للجهاد، والحفاظ على مصالح الأمة؛ وكانوا في ذلك يعبرون عن موقف الشريعة الإسلامية تجاه كل القضايا ذات الصلة بالواقع المغربي، خاصة بعد أن تبلور الوجود الأجنبي بارزا على مستوى هجوماته العسكرية، ثم على مستوى ما يروجه الأجانب من البضائع التجارية الأوروبية التي غزت البلاد، وما يرتبط بها من معاملات جديدة خالطت واقع الناس وممارساتهم اليومية؛ فأصبح من الضروري الفصل في هذه المستجدات بين ما هو موافق للشريعة وما هو مخالف لها، مما ينتظر موقف الفقهاء وفتاويهم. وفي هذا الفصل نتناول نماذج من البضائع التجارية الأوروبية ومختلف المعاملات التي اقتضتها مخالطة الأجانب والتعامل معهم، متتبعين ذلك من خلال آراء الفقهاء وفتاويهم. وكان استعمالنا المصطلح الفقيه، بدل العالم، يسير مع مختلف الآراء التي نود الإدلاء بها، لأن لفظ الفقيه يطلق على كل من له دراية بالعلوم الإسلامية والمعارف المرتبطة بها؛ وبهذا المفهوم يكون العالم والقاضي والمحتسب فقيها. لقد أبدى الفقهاء اهتمامهم بظواهر الحياة والوقائع اليومية، وساهموا في توجيه الأمة، أفرادا وجماعات، إلى حد أن المستعمرين كانوا يحذرون من الفقهاء، ويسمون فقيها كل من ينشر الوطنية والوعي الديني. وقد بذل الفقهاء أقصى المجهود في ميدان تطبيق القواعد الفقهية، على النصوص لاستنباط الأحكام بما يوافق المذهب المالكي، وكانوا يؤولونها تبعا لما يسمى في الفقه بـ«المصالح المرسلة»، وعن طريق هذا التأويل أمكن للفقهاء تقريب الواقع إلى النصوص، رغبة في إيجاد الحلول للمشاكل التي تحدث للمسلمين من جراء النوازل الجديدة، حتى تنتظم العلاقة بينهم وبين من يتعاملون معهم من الذميين أو من الأوروبيين وغيرهم. وهكذا تعددت أساليب الفقهاء في مواجهة التدخل الأجنبي، وبالخصوص بالنسبة إلى المواد التجارية التي كان الأوروبيون يعملون على ترويجها والبحث عن الامتيازات للحصول على أسواق المغرب لتصدير فائض الإنتاج الصناعي إليها. وقد ضَمَّنَ الفقهاء هذه المواجهات في خطبهم أيام الجمع والأعياد في مؤلفاتهم وفتاويهم ومواعظهم».
«طُرفة الأدباء.. بإباحة ضوء الكهرباء»
هناك شهادات تاريخية كثيرة في الكتب والمذكرات، تقول إن القصر الملكي في فاس كان من بين أول الأماكن التي تم ربطها بالتيار الكهربائي، حتى أن أحد أصدقاء القصر قام بإهداء المغرب عددا من المصابيح القوية، الألمانية الصنع، كوسيلة تتقرب بها ألمانيا من المغرب، رغم أن فرنسا وبريطانيا كانتا تسبقانها بأشواط كثيرة.
سبق وأن تناولنا في «الأخبار»، من خلال ترجمة سلسلة تضمنت أقوى مضامين بعض المذكرات التي خطها دبلوماسيون وصحافيون أجانب إما عاشوا في المغرب لفترة، أو مروا منه في إطار الرحلات الاستكشافية. وهذه الكتابات، خُصص حيز مهم منها لرصد ظواهر بداية تعرف المغاربة على الكهرباء وأعمدة الإنارة والأسلاك.
كانت أسلاك الكهرباء قادمة من اتجاه طنجة، وهي المدينة المغربية التي كانت وقتها دولية. ففي سنة 1840 وصولا إلى سنة 1900 كانت طنجة تُعتبر بوابة فقط على المغرب، وكانت ملامح الحياة الأوروبية قد اكتسحتها بشكل سبقت معه بقية مناطق المغرب إلى الاحتكاك بمظاهر الحياة الأوروبية، بدءا بالمقاهي، وصولا إلى الفنادق والمسارح وصالات العروض.
في فاس ومراكش أيضا، لم يكن العلماء يستسيغون ربط المدينتين بالتيار الكهربائي. لكن لا أحد كان يجرؤ على قطع تلك الأسلاك أو إتلافها، قبل تمديدها لتربط إقامات الأجانب بالتيار الكهربائي. لم يكن هناك أي سلوك عدائي منظم ضد هذا الاختراع، لكن العلماء ضغطوا بثقلهم وأفتوا بتحريم ضوء الكهرباء، ونصحوا الناس بعدم الاستفادة منه. لقد كان الغضب عارما بعد وفاة المولى الحسن الأول بأشهر، لأن الفرنسيين والإنجليز كانوا قد بدؤوا أشغال توسيع نطاق الأماكن التي يشملها نور الكهرباء ليلا، بعد أن كان الأمر مقتصرا على منازل قليلة فقط. وهكذا كانت الأشغال تجري في الوقت الذي كانت فيه البلاد تشهد تشنجا سببه الصراع حول السلطة.
عندما أفتى العلماء بتحريم الكهرباء وتزويد المنازل بها، كان الأمر يصب في باب الانتقام من الأعيان الذين ربطوا إقاماتهم بها، وكانت علاقتهم بالأجانب وطيدة. لأن أغلب الذين زودوا منازلهم بالكهرباء، كانوا في الأصل يفتحون منازلهم يوميا لاستقبال الأجانب حول مأدبات العشاء التي كانت تُعتبر المكان المفضل للتعرف على المغاربة أكثر. لهذا كان تحريم هذا الاختراع الجديد نابعا من الأجواء التي تحيط بشروط الاستفادة منه، وظروف استعماله أيضا.
بقي لغز تحريم الكهرباء محيرا. الفقراء، الذين شكلوا السواد الأعظم من مجتمع ذلك الوقت، كانوا خارج السياق، لأنهم لم يكونوا يملكون إمكانيات التزود بها. بقي الأمر محصورا في النخب الغنية في المغرب، وهؤلاء لم يكونوا يعيرون أي اهتمام لغضبات العلماء وخطب الوعظ، خصوصا وأن أغلب العلماء وقتها كانوا يوجهون خطاباتهم لأتباع الزوايا ورواد المساجد.
عندما اجتمع العلماء، في أواخر أيام المولى عبد العزيز، وحسموا في أمر اتخاذ إجراء حاسم مع السلطان ومطالبته بالتنحي عن الملك، بسبب علاقاته الوطيدة مع الأجانب، كان للكهرباء دور مهم في هذه الخطوة. فبغض النظر عن السيارة التي جلبها الأجانب إلى قصر المولى عبد العزيز، والتي اعتُبرت هي الأخرى رجسا خطيرا تُشغله الشياطين ما دامت لا تجره الخيول، فإن فتوى تحريم الكهرباء وتشغيلها في المنازل، كان لها دور كبير في تأجيج غضب العلماء على المولى عبد العزيز، لأنه كان «متنورا» يسمح لأصدقائه بتركيب المزيد من المصابيح لإنارة بعض مناطق فاس بالكهرباء.
مرت سنوات كثيرة بعد تنحية المولى عبد العزيز، وخرج أحد المتنورين ليكتب كتابا متوسط الحجم، أسماه «طرفة الأدباء بإباحة ضوء الكهرباء». وكان كتابه ردا على بعض التساؤلات التي وجهت إليه بخصوص تحريم الكهرباء، وقد كان هذا العالم يقطن في ضواحي طنجة، حيث كانت مظاهر الحياة الأوروبية أكثر انتشارا من الداخل. وهكذا فقد عدد محاسن ومنافع التيار الكهربائي، وأفتى بجواز التزود به واستعماله للإنارة، واعتبره من النعم التي تُيسر الحياة وأن المستفيد منه غير آثم. وقد جمع بعض العلماء من بعده كتابه الذي جاء في 40 صفحة بخط اليد، ووضعت نسخه المحدودة في مكتبات بعض العلماء مثل الراضي الحسني الإدريسي، وغيرهم.
«قالب السكر».. علماء اعتقدوا أنه مخلوط بدم الخنزير
«تضاربت آراء الفقهاء في شأن السكر المستورد بين حليته وحرمته، باعتبار أنها مادة مستوردة من البلاد الأجنبية وأنها مشكوك في طهارتها». هذا ما كتبه د. عمر أفا في كتابه «التجارة المغربية في القرن التاسع عشر، البنيات والتحولات». مواصلا: «وهذا أحد الفقهاء يرى تحريم سكر القالب الذي يجلب من بلاد الروم؛ يقول: «فقد أخبر بعض الثقات ممن له مزيد فطنة أن الروم يجعلون الدم المسفوح فيه عند طبخه للتصفية، ثم يغالون فيه بالعمل طبخا وتصفية إلى أن يصير في نهاية من البياض والصلابة، مفرغا في القوالب على الشكل الواصل إلينا، ولما أخبر الوالد – قدس الله سره – بذلك، أفتى بأنه لا يشفع به أكلا ولا شربا، لأن المشهور في المذهب أن الطعام المائع إذا حلت فيه نجاسة ولو يسيرة، تتحلل فيه ويتنجس ولا يقبل التطهير، وفي المختصر: «وينجس كثير طعام مائع بنجس قل».
وقد أجاب جمع من العلماء، منهم: محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي، وسليمان الحوات ومضمون الجواب أن اللون الأحمر الذي توهم أنه الدم إنما هو عين السكر في أول أطوار طبخه وحمرته أصالة فيه وليس به دم، وربما عاد إليه شيء من أصله إذا قابلته بنار، وثبت ذلك عن طريق التجربة. ونظرا إلى أن السكر لا يستغنى عنه في الأطعمة الفاخرة، ولا في قوام الأشربة والمعاجين والحلوى وغيرها، فقد دأب الناس على استعماله بكثرة.
(..) إذ يزعمون أن الروم يعقدونه بالمسفوح من الدماء، وبالخصوص دم الخنزير وأنه يصفى بعظام الميتة، فجاءت أجوبة العلماء عن هذه الأسئلة موسعة».
كان المؤرخ المغربي الشهير الناصري، بالإضافة إلى المختار السوسي، أهم العلماء والمؤرخين المغاربة الذين وثقوا لهذه الأحداث التي كان أبطالها علماء من القرويين على وجه الخصوص، بالإضافة إلى علماء آخرين، الجامع بينهم كُرههم لدخول الأجانب إلى المغرب وفتحهم فروع شركاتهم التجارية في قلب الموانئ المغربية.
لكن هذه الممانعة لم تصمد طويلا، وانبرى علماء آخرون كانوا أكثر فهما للأمور، وأعلنوا أنهم يستهلكون السكر المستورد، وأنه ليس محرما. وهو ما أشار إليه الباحث عمر أفا، بالقول: «يعتمد سليمان بن عبد الله الحوات على التأكيدات التي أدلى بها سفراء مغاربة في العهد العلوي إلى أوروبا وبلاد الروم، وبالخصوص إلى فرنسا على عدم حرمة السكر. إذ يقول «وكانوا ممن لا يخدع وتلتبس عليهم الأشياء بمزيد العلم والأدب وقوة التيقظ مع شدة البحث عما يرون ويسمعون، سيما غرائب ما عندنا، وكذلك أكابر التجار في أكثر البلاد الإسلامية والنصرانية أن أغلب لون المواد السكرية كلها تغلب عليها الحمرة في موادها، مثل العسل وماء العرقسوس، وماء العنب، وعصير التمر..».
وكان المشايخ يتعاطونه مثل محمد بن العربي الأدوزي، وسيدي العربي بن السائح، وغيرهما من المشايخ، دليلا على حليته.
وهكذا أجمع أغلب الفقهاء على حلية «سكر القالب» ومختلف أنواع السكر، ومما جعل تجارته تلقى رواجا منقطع النظير، وقد ألف في حليته كثير أمثال محمد بن عبد السلام الناصري، والعربي الزرهوني وبدر الدين الحمومي، ومحمد الكتاني الشهيد وغيرهم».
قدسية الفتاوى وتقديس بعض «الأولياء» حيّرا الأجانب
نورد هنا مثالا من مذكرات المغامرة البريطانية «آميليا بيريير»، والتي صدرت في كتاب يحمل عنوان «شتاء في المغرب»، تعود وقائعه إلى سنة 1873. ورغم أنه -الكتاب- لم يُطبع إلا في سنة 1923، إلا أنه لقي نجاحا واسعا جدا في بريطانيا في ذلك الوقت.
هذه الكاتبة التي جاءت إلى المغرب واستقرت لفترة بمدينة طنجة، في قلب فندق يعج بالأجانب، كرست أغلب وقتها لرصد طباع المغاربة ومعتقداتهم، وروت كيف أنها حاولت منذ أيامها الأولى في المغرب والتي امتدت لأشهر، فهم تقاليد المغاربة وعاداتهم، ومعتقداتهم.
وفي هذه المذكرات التي انفردت «الأخبار» بترجمة أقوى مضامينها إلى العربية، حصريا، حكت آميليا عن طقوس إحدى الزوايا في شمال المغرب، يتزعمها شخص اسمه محمد بن عيسى، التقته بنفسها وتحدثت إليه، ووصفت الطقوس التي كان يأمر أتباعه بالالتزام بها.
وانتبهت إلى أن المغاربة لم يكونوا يتسامحون مع الوجود الأجنبي في المغرب، وقيل لها، حسب ما حكت في كتابها، إن العلماء والفقهاء يتحملون مسؤولية تأليب الناس ضد الأجانب، وضد كل ما هو أجنبي.
كما أنها أشارت في كتابها إلى أن العلماء حرموا كل ما هو جديد على المغاربة، وأن هؤلاء بدورهم لم يكن لديهم أي استعداد لاستكشاف حياة الأجانب ولا مظاهر الحضارة التي جلبوها معهم إلى المغرب.
تقول آميليا إن أمثال محمد بن عيسى، كمن أسسوا دينا جديدا، يتبعهم مُريدوهم، ويكفي أن يفتي بتحريم اختراع أوروبي، حتى يصبح محرما لدى الجميع.
ما يميز «الحلقة» التي كان يتزعمها محمد بن عيسى، حسب آميليا دائما، أنه كان يجمع فيها جميع أنواع المغاربة. الفقراء والمحتاجين والمشردين، وحتى الأغنياء والتجار وعلية القوم. كان يجمع المتسخين والأنيقين. كلهم كانوا يتجمهرون في نصف حلقة دائرية، كقوس، وينصتون لكلامه بكثير من الاهتمام. والطريف أنه كان يستعمل طبلا في الحلقة، كفاصل بين فقرات كلامه الذي يبث الحماس في نفوس الفقراء، ويجعل الأغنياء يعتقدون أن محمد بن عيسى أقوى منهم، أو لديه سلطة عليهم. كان «الطبل» الذي يضربه محمد بن عيسى بعنف، بمثابة فاصل بين محاور خطابه المطول أمام الناس.
تقول متحدثة عن لقائها بهذه الشخصية المثيرة:
«إن مسألة «الطاعة» أثارتها كثيرا في تلك الطقوس. فقد جاء 36 رجلا، كان كل واحد منهم يتحكم في فريق من المتجمهرين، وقاموا بذبح خروف على باب الضريح مقلدين محمد بن عيسى». لكن الطريف أن آميليا أضافت في وصف تلك الطقوس: « لقد بدا الأمر مع هؤلاء الناس الذين اتبعوا محمد بن عيسى، أنه أسس دينا جديدا يخصه».
كان أتباع محمد بن عيسى يتبعونه في كل شيء، يجمعون معه حبات الزيتون من الأشجار، ويطبقون أوامره حرفيا. حتى أنهم كانوا يتحلقون ويفترشون الأرض في انتظار الطعام الذي يوفره لهم، من خلال التجوال طيلة اليوم بين القرى والحقول. ويقول أحدهم إن لديهم ثقة كبيرة في كلامه ويضيف أنهم يأكلون الثعابين وحتى العقارب لإسكات جوعهم، ويفضلون ذلك على مخالفة أوامره. لقد كان محمد بن عيسى أكبر من مجرد رجل «زاوية» نافذ.
يقول محمد بن عيسى كما نقلت عنه آميليا في مذكراتها ما يلي: «عليك ألا تشك في قدراتي. وأن تؤمن بقوتي، أنت وأبناؤك، وأي أحد يدخل معك الأرض التي فتحتها لك، وألا تخاف من أي سم أبدا».
تقول آميليا مجددا: «كان يُنصت لقرع الطبل بكثير من الهدوء، وكان صوته يكسر الصمت المطبق والتركيز الكامل للمتجمهرين. لكن حكاياته لم يكن لها أي وقع عاطفي على الناس ولا تأثير لها في صدورهم».