شوف تشوف

شوف تشوف

فاقد الشيء أصبح يعطيه

يقال إنك تكسب قضية ما مرتين، مرة عندما تحكم لك المحكمة بحقك، ومرة عندما تنفذ الحكم الصادر لفائدتك، بل إنه غالبا ما تكون معركة التنفيذ أقوى وأشرس من معركة التقاضي، خاصة إذا كان خصمك فاسدا يتقاضى بسوء نية، أو يمتلك نفوذا قويا، أو يحتمي بحصانة قانونية أو واقعية معينة تجعل فرائص عون التنفيذ ترتعد لمجرد سماع اسمه، ومن ذلك ما يحدث مع بعض الإدارات العمومية والوزارات التي تمتنع عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها بكل تحد، رغم أن هناك جريمة في القانون المغربي اسمها “تحقير المقررات القضائية”، والتي يحاكم بها المواطنون البسطاء الذين يتخاصمون في ما بينهم على شجرة زيتون أو فتح ممر بسيط بين قطعتين فلاحيتين في قرية نائية من قرى المملكة.
أما في العاصمة الرباط، فقد ابتدع السيد رئيس المحكمة الإدارية بها بدعة فريدة من نوعها، تتمثل في إبرام محكمته لاتفاقيات ثنائية لا صفة لها في إبرامها، تقضي بتمديد مدة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد بعض مؤسسات الدولة، حيث أمهلت الشركات العمومية، وعددا من مؤسسات الدولة المسيرة بطريقة مستقلة، ثلاثة أشهر لتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، فيما منحت القطاعات الوزارية والجماعات المحلية الموقعة على الاتفاقية أجل 6 أشهر، دون أية ضمانات باحترام هذا الأجل، وكل ما تنطوي عليه تلك الاتفاقيات من دلالات سلبية، هي أنها تحابي مدراء الإدارات العمومية والوزراء المحكوم عليهم وتطبطب على أكتافهم على حساب انتظارات ومعاناة خصومهم الذين قضوا سنوات من أجل الوصول إلى ذلك الحكم الذي أصبح واجب التنفيذ، والذي يحمل الصيغة التنفيذية التي تقول “يأمر جلالة الملك جميع الأعوان ويطلب منهم أن ينفذوا الحكم أو القرار المذكور، كما يأمر الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك لدى مختلف المحاكم أن يمدوا يد المعونة لجميع قواد وضباط القوة العمومية وأن يشدوا أزرهم عندما يطلب منهم ذلك قانونيا”.
ولو أن محاميا طالب التنفيذ هو من قام بإمهال الإدارة المحكوم عليها 6 أشهر من أجل تنفيذ الحكم بدون إذن زبونه لحامت حوله الشكوك، وربما توبع تأديبيا من طرف نقابته من أجل التفريط في حقوق موكله، فكيف بالسيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط، وبأي حق يتصرف سيادته في ملفات تنفيذية مفتوحة لديه من طرف أصحابها، والتي غالبا ما تكون محكمته مجرد نائبة في التنفيذ عن محاكم إدارية أخرى، قد يكون لرؤسائها رأي مخالف ؟
فهو بدل أن يفعل الأمر الملكي الوارد بالصيغة التنفيذية للحكم، وبدل الاجتهاد كرجل قضاء في البحث عن وسائل قانونية لتمكين المواطنين من حقوقهم في أسرع وقت، راح يمنح كإداري مهلة استرحامية على بياض للسلطة التنفيذية على حساب المواطن المقهور، وهو ما قد يعد خرقا لدستور المملكة الذي ينص في فصله 126 على أن الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع، وأنه يتوجب على السلطات العمومية المساعدة على تنفيذ الأحكام، كما يمكن اعتباره تجاوزا للأوامر الملكية بالإسراع في تنفيذ الأحكام ضد الإدارة، ولفلسفة إحداث القضاء الإداري، الذي أراد الملك الراحل الحسن الثاني من خلاله أن يجعل الإدارة العمومية متساوية مع المواطنات والمواطنين أمام القانون، لها ما لهم من حقوق وعليها ما عليهم من واجبات والتزامات، بالشكل والمعنى الذي يكون فيه دور القضاء هو حماية الخواص في حالة زيغ الإدارة عن القانون، وهو بالضبط ما تعطله هذه الاتفاقية، والتي تخالف في الوقت نفسه دوريات رؤساء الحكومة المتعاقبين في هذا الصدد.
إن تطبيق المحكمة الإدارية بالرباط لهذه الاتفاقية، ورفضها لطلبات التنفيذ الإجباري من قبل الحجز على حسابات الآمرين بالصرف مثلا، ضدا على وضوح القانون في هذا المجال، يضع المحاكم الإدارية تحت سؤال المعنى والمغزى من إحداثها أو بقائها، فهل تم إحداثها من أجل حماية المواطنين من شطط الإدارة العمومية أم من أجل حماية الإدارة من الأحكام القضائية الإدارية المستصدرة ضدها ؟
وهل هي بصدد التحول عن الغاية المقصودة من إحداثها ؟
ولا نستغرب أن يفتح هذا الاجتهاد في المستقبل شهية رؤساء محاكم أخرى لإبرام اتفاقيات مشابهة، والتي ربما تكون عبارة عن اتفاقيات مع شركات التأمين والأبناك والمؤسسات المالية الأخرى، لتفادي إرباك حساباتها والمحافظة على انتفاخ صناديقها، وتمكينها من فرصة لتنفيذ ما هو محكوم به عليها عن طيب خاطر.
ولو أن جمعية هيئات المحامين بالمغرب بقيت على سابق عهدها، لأقامت الدنيا ولم تقعدها بتصديها لهاته الاتفاقيات التي من شأنها المساس بحقوق المحامين وموكليهم، وبقدسية الأحكام وقابليتها للتنفيذ فورا وبدون إبطاء، لأن ما لم يضعه السيد الرئيس في الحسبان أن أولئك المواطنين من طالبي التنفيذ، سواء كمقاولات أو أشخاص ذاتيين، قد انتظروا الوصول إلى حقهم بما فيه الكفاية، وأن منهم من أفلس ومنهم من عاش ومات على أمل التنفيذ، بعد قضاء سنوات طوال بين ردهات المحاكم وهم يتبادلون المذكرات الجوابية والخبرات والخبرات المضادة و”شدلي نقطع ليك” مع الإدارة التي غالبا ما تقوم باستئناف الحكم رغم وضوح الحق لمجرد التماطل، ثم الطعن فيه بالنقض من أجل الامتناع عن التنفيذ بمبرر انتظار نتيجته، وأنهم بعد كل ذلك ليسوا مستعدين لانتظار أن يقوم رئيس المحكمة الإدارية بالبحث لهم عن ترضيات مع خصمهم ومحاباته على حسابهم، وأن يتوسل إليه بتنفيذ الأحكام الصادرة ضده بعدما حازت قوة الشيء المقضي به، ففي دول أخرى يعتبر الامتناع عن تنفيذ الحكم شططا في استعمال السلطة، وشكلا من أشكال الفساد والاستبداد اللذين يوجبان على القاضي الإداري التصدي لهما حفاظا على مبدأ دولة الحق والقانون وتكريسا لهيبة القضاء، لذلك اعتبر قضاؤها أن امتناع الوزير أو المدير عن تنفيذ الحكم الصادر ضد المرفق العام التابع له، خطأ جسيما يرتب مسؤوليته شخصيا، بحيث يمكن الحكم عليه بالتعويض باسمه وصفته، مع إمكانية التنفيذ عليه وحجز مرتباته وممتلكاته.
وهذا ما كان يجب أن يقوم به السيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط، بدل التراجع عن مواقفه السابقة، وهو ما كان يجب على وزير “العزل” وما تبقى من حريات أن يحرص عليه، بدل تثمينه لخطوة غير محسوبة العواقب ولا سند لها في القانون، لمجرد أنها همت إدارات يسيرها إخوانه في الحزب، وهي الخطوة التي من شأنها أن تكرس تغول الإدارة والمحافظة على الفساد والاستبداد الذي وعدنا معاليه وصحبه في غابر الأزمان بمحاربتهما.
وفي الختام نذكر من كان لا يزال يتذكر المرجعية الإسلامية برسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري وهو يوليه القضاء حين قال له إنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقّ لا نفاذَ له، وأمره بأن يساوي بين الناس في مجلسه ووَجهه حتى لا يطمَعَ شريفٌ في حَيْفه ولا يَخافَ ضعيفٌ من جَوره، لأن إعمال هذه الاتفاقية، هو بمثابة عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، فهو يعطل التنفيذ ويميز بين الوزير والغفير، ولا يعني في نهاية المطاف غير تعطيل الالتزام بالقانون، الذي تجسده الأحكام القضائية، مما يعني تغييب القانون الذي ينص على أن تنفيذ الأحكام يجب أن يكون ملزما عند تذييلها بالصيغة التنفيذية، وهذا ما يضمن للقانون سموه وهيبته، بالإضافة إلى أن تمييز مؤسسات الدولة وإخراجها من دائرة الامتثال للقانون وأحكامه، لا يعني غير تعطيل أحد أهم المبادئ الدستورية، وهو مبدأ تكافؤ الفرص، وتغييب أحد أهم المبادئ القانونية الذي هو مبدأ المساواة أمام القانون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى