فاطمة المرنيسي.. شجاعة البحث السوسيولوجي بصيغة المؤنث
إعداد: المصطفى مورادي
توفيت، يوم الاثنين الماضي، الكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، عن 75 عاما، بعد معاناة مع المرض. والمرنيسي من أشهر الكاتبات المغربيات المدافعات عن حقوق وقضايا المرأة، والتي تناولتها من زاوية علم الاجتماع على الأخص. وكانت من أوائل المغربيات اللواتي تلقين تعليما عربيا في مدارس خاصة بسبب معارضة والدها للتعليم في مدارس فرنسا الاستعمارية. تابعت دراستها في المغرب وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، واشتغلت بتدريس علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالرباط. وحصلت المرنيسي، في عام 2003، على جائزة «أمير أستورياس» الاسبانية مناصفة مع الناقدة والروائية الأمريكية سوزان سونتاغ. وتُرجمت أعمالها إلى عدة لغات.
الكاتبة المغربية، التي حضرت في لائحة نشرتها جريدة «الغارديان» للمناضلات النسائيات الأكثر تأثيرا في العالم، وعُرفت بأفكارها التي تدعو إلى تحرير المرأة من سطوة الأعراف والتقاليد والمساواة الكاملة للنساء مع الرجال. وكانت تكتب مؤلفاتها بالفرنسية، إلا أن ذلك لم يوقف أعمالها عند حدود هذه اللغة، إذ ترجمت إلى العربية والإنجليزية، ولغات أخرى.
وأهدت فاطمة المرنيسي، ابنة مدينة فاس، للخزانة المغربية العديد من المؤلفات التي تتعدد بين علم الاجتماع والبحث التاريخي والرواية، ومنها «ما وراء الحجاب»، و«الإسلام والديمقراطية» و«هل أنتم محصنون ضد الحريم؟»، و«سلطانات منسيات»، و«أحلام النساء الحريم» و«شهرزاد ليست مغربية».
تحرر بلغة العلم والبحث الأكاديمي
مفكرة ومثقفة نسائية فريدة، تنتمي إلى الجيل الثاني من حملة الخطاب التحرري بالمغرب، امتلكت شجاعة طرح الأسئلة وحمل معاول هدم الأوهام، من خلال فعل البحث والتنقيب فضلا عن فعل الكتابة الأدبية المتميزة والجريئة.. مستعينة بأحدث مناهج النقد الثقافي ومقولات البحث السوسيولوجي..
إنها مناضلة حملت لواء كشف ونقد.. وتجاوز النزعة الفحولية التمييزية المتوارية خلف القيم والأحكام.. منذ زمن كان فيه الخطاب الحقوقي والتحرري عامة انتحارا وعملا فدائيا بامتياز..، فإذا كانت «ممتهنات الخطاب النسائي» اليوم يعتبرن «الكوطا» مطلبا نضاليا، فإن فاطمة المرنيسي تعتبر مطالبها أكبر من كرسي تمليه الشفقة والأريحية.. أو نسبة تفرضها القوانين الداخلية «للأقليات»، إنها مسألة نسق ثقافي غير متوازن، نسق ينبغي هدمه جينالوجيا ليعاد بناؤه بقيم المساواة والمواطنة الكاملة للمرأة.. عبر عمل استراتيجي مضن، يتجه للأطر الثقافية لتفكيك أوهامها المغلفة..
عند المرنيسي؛ سؤال المرأة إنسانيا هو سؤال الحب والشعر والجمال.. وعربيا، لا يخلو هذا السؤال من حمولات ثقافية أقرب إلى الإيديولوجيا..، مؤسسة على نوع من التقسيم القبلي للأدوار الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. تعطي للرجل مكانة الفاعل وللمرأة مكانة المنفعل.. وهي قسمة ضيزى لا تسندها إلا الأهواء ونزعات التسلط المستحكمة، بدءا من قصور بني أمية وبني العباس في القرون الغابرة، وصولا إلى أصغر أسرة وإدارة وحزب اليوم.. فالنسق ذاته يعاد إنتاجه.
في هذا النسق الثقافي الحريمي لا يعترف للمرأة بالإبداع والحكمة.. اللهم إلا قدرتها على تحفيز قرائح الإبداع عند الفحول.. حتى عندما يتعب هؤلاء من طبيعتهم العاقلة.. اختاروا التسلية قليلا بطبيعتها الشهوانية.. لتتحول المرأة من مسكوت عنه في المقام الأول إلى مرغوب فيه في المقام الثاني.. لهذه الأسباب خرجت «الليلة الثامنة عشرة» من «الإمتاع والمؤانسة» للتوحيدي، عن إيقاع «الجد» الذي حكم الليالي السبع عشرة السابقة.. فنجد الوزير يطلب من التوحيدي بعض التسلية لأنه تعب من جد الفلسفة والمنطق والنحو وغيره.. فبعد أن كانت المرأة غائبة بشكل مطلق في الليالي السابقة.. انبرى التوحيدي إلى ذكر ما قيل في النساء وما تم تناقله من أشعارهن وأخبار عشقهن وعشاقهن «المجانين».. أما إذا كسرت امرأة احتكار الرجل «للجد» ونافسته وتفوقت عليه.. صنفها ذات «المنهزم» نسخة ممسوخة عنه أو «فحلا ناقصا»، بتعبير النابغة الذبياني.. إنها «كالدجاجة التي تصيح صياح الديك»..، لمَ لا «والمذكر أصل المؤنث»، بتعبير أبو البركات الأنباري.
عند المرنيسي النزعة الفحولية أو «الحريمية» هي مرض معدٍ متنقل، ينتعش في بيئة ثقافية راكمت قرونا من تقاليد احتقار المرأة، وفي الوقت ذاته تحويل كل ما يتعلق بالرجل إلى أصنام تورث منتقدها والثائر عليها اللعنة، إنها بيئة لا تخفي معالمها اليوم هدايا أعياد المرأة والحب وأريحية «الكوطا» النسائية في الحزب والنقابة.. فالشهريارية أضحت قيمة مرغوبا فيها ولم تعد بنية ثقافية مسكوتا عنها كما كان في عصر النابغة الذبياني..
هذه شذرات من فكر امرأة حريصة على أن تكون نابغة من خلال أنوثتها وليس من خلال الاستلاب في حريمية متوارثة.. فأجادت وأفادت وكان لها الفضلان.
شهرزاد.. معاصرة
الأفق الذي تناولت فيه المرنيسي المسألة النسائية، ليس ببعيد عن الإيقاعات الخاصة بألف ليلة وليلة، حيث إن السلطة الرسمية هي للرجل، فهو من يقتل عندما يفتض العذرية، لكنه، وبسحر اللغة الفاتنة والغاوية، يتحول هذا المتسلط إلى ذات منفعلة بلغة امرأة لم تتطاول على وظيفته كعاقل وحكيم ومتسلط، بل أتقنت وظيفتها وسحرها، وهو سحر الحكاية، فكانت «ألف ليلة وليلة» من الحكي والسحر، دون أن يملك هذا الشهريار فرصة لإبراز تسلطه. صحيح أن حكايات «ألف ليلة وليلة» هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، لكننا إن استعملنا مفاهيم علم النفس فهي أقرب إلى المتخيل الجماعي، الذي يختزن بنية من المواقف الثاوية خلف كل المواقف من الجنس والأنوثة والمرأة. لذلك فلم يخطأ من قارن بين هذه الليالي وأسطورة «أوديب»، ليس من حيث السيناريو بل من حيث أنهما معا يعتمدان على المتخيل اللاشعوري، والذي سعى فرويد إلى عقلنته، ليصبح مكونا موضوعيا للوضع البشري. فشهريار «العن» والذي هُدرت كرامته من طرف امرأة/زوجته، عندما خانته مع فحل سواه في لحظة مرض شارف فيها على الموت، أقسم أن ينتقم من هذا الجنس الذي أتى بفعل لم يقدر الفحول من رعيته على الإتيان به، ولأنه جرم غير طبيعي مس ليس إنسانيته بل فحولته، فإن الانتقام هنا سيكون بانتهاك قيمتين لهذه «العدوة الشهريارية»: قيمة العذرية وهي قيمة خطيرة في ثقافة ذكورية، لأنها تحمل معنى البياض الذي لم يفتضه بعد قلم، فأراد أن يكون هو الخطاط الأول والكاتب الأول.. ثم ولكي يكون الكاتب الأخير أيضا، فإنه قرر انتقاما لرجولته المهانة، أن ينزع قيمة الحياة أيضا، بقتل من أصبا إليهن وافتض بكارتهن، إنه عقاب لجنس وليس فقط عقاب فرد/زوجته.