حاوره: سعيد الباز
- تتميّز التجربة الإبداعية ليوسف فاضل بخاصية التعدد من الرسم، والمسرح والرواية، السيناريو إلى الإخراج السينمائي… من أين أتت سمة التعدد؟ وهل هناك رابط خفيّ بين كلّ هذه الاهتمامات؟
أنظر الآن إلى الخلف، إلى الطريق الطويل والمتشعب الذي عبرت، والذي يختلط فيه الحظ بالصدفة كما هي العادة. منذ رغبتي الأولى في أن أصبح رسامًا محاكاة الأشياء ونقلها على الورق كانت هويتي الأولى… أزهار، حقول شقائق النعمان، قصور من القرون الوسطى… لم أتعلم الرسم في مدرسة. ونقلت على الخشب لوحات عرفت في ما بعد أنها لرسامين مشهورين. ثم في ما بعد، في السادسة عشرة، عندما تأكدت الرغبة لدي في أن أكون رسامًا، شاركت ونجحت في اجتياز امتحان مدرسة الفنون الجميلة، دون أن أذهب بعيدًا لأسباب مادية.
ثم كتبت للمسرح قبل الانتقال إلى القصة القصيرة ثم الرواية ثم السيناريو. لم يكن انتقالًا بقدر ما كان مواكبة. أنتقل بين المسرح والسيناريو حسب الظروف، إلا أن الرواية كانت وتبقى خبزي اليومي.
- بدأ يوسف فاضل حياته المهنية أستاذا للغة الفرنسية، كان من المفترض –كما هو شائع لدى الكتاب المغاربة- أن تكتب باللغة الفرنسية. كيف أقمت معمارك الروائي والمسرحي انطلاقا من اللغة العربية؟ وهل هناك أسباب لهذا الاختيار؟
الاختيارات نادرة في الحياة، حتى تلك التي تبدو كذلك. وجدتني أكتب بالعربية قبل أن أتعلم الفرنسية. ثم إن فرنسيتي هي فرنسية الخبز وحجرة الدرس. غير كافية. اللغة نمط حياة. لكي تكتب بها يجب أن تمشي فيك. في الكتابة لا أبحث عن اللغة. تأتي كما تريد، بحجرها وطوبها، بفصحاها وعاميتها. اللغة كالبنت التي لعبت معها وأنت صغير. وهي لا توجد في باريس. إنها في درب السلطان أو قلعة السراغنة.
- في السياق ذاته، مارست مهنة التعليم مدة من الزمن، ثم انطلقت مبكرا في مغامرة التفرغ الكامل للكتابة والإبداع. هل التفرغ للإبداع والكتابة ضرورة تقتضيها أيّ تجربة إبداعية؟
لا توجد لا ضرورة ولا قانون في هذا الباب. كل الناس يرغبون في أن يتفرغوا لعمل ما، والأغلبية تفضل ألا تشتغل إطلاقًا. لا عمل ولا تفرغ ولا تهْراسْ الراس. التفرغ ترف نادر في المجتمعات التي لا تقرأ. أما أنا فقد فضلت الاستقالة من التعليم لأنني قلت أستطيع أن أتدبر حالي في كتابة السيناريوهات والإخراج… إلا أن الأمور لا تسير دائمًا كما تشتهي. مرة هاكا ومرة هاكا.
- تقول في أحد الحوارات: «أنا عامل يومي بسيط، أشتغل من الساعة السادسة صباحا إلى منتصف النهار، ولم أشعر بأني صرت نجما، لأن التقدم في السن يقضي على كثير من الأشياء الثانوية»، هل هذه إشارة إلى ما تفرضه الكتابة الروائية من ضرورة الالتزام بالانضباط الكلي لروح العمل اليومي والدؤوب وفق طقوس خاصة؟
لا أذكر تاريخ هذا الحوار، ولكن الجملة تثيرني الآن. فيها تواضع زائف. يمكن كتابتها بعدة صيغ، مثلًا: التقدم في السن يجعلك تيأس من أنك ستصبح نجمًا. أو: لم أشعر بأنني صرت نجمًا مع أنها رغبتي. وأعوض الشهرة بالكتابة. أو طقس الكتابة. وهو ليس طقسًا بقدر ما هي عادة تآلفت معها لأنني لا أستطيع أن أبقى بدون عمل. في الصيف، مثلًا، لأن النهار طويل فالرسم والصباغة يعينان على محو جزء منه.
- ماذا عن المسرح؟ يعرف الجميع أنّه كان بالنسبة إليك الانطلاقة الأولى، ومازالت بعض أعمالك المسرحية من علامات المسرح المغربي. هل تحمل حنينا خفيا للمسرح وأجوائه المفعمة بالكثير من المشاعر المبهجة؟
كتبت العديد من المسرحيات، وكتبت أيضًا عشرات السيناريوهات للسينما والتلفزيون. وهي علاقات تستمر حتى الآن. كما لو أن الأمور سارت عبر مسار لا أتحكم فيه. لأنني أحسن الرسم رسمت ملصقًا لإحدى الفرق المسرحية عندما كنت صغيرًا. وحضرت تداريب الفرقة. وكانت تتدرب على مسرحية «موتى بلا قبور» لسارتر. من كثرة التردد على التمارين حفظنا النص المسرحي ظهرًا عن قلب. نردد الحوارات ونحن في الطريق أو جالسين أمام البيت. علاقتي بالأدب بدأت من هنا.
آثار المسرح بادية في بعض أعمالي الروائية. رواية «قصة حديقة الحيوان» تعود إلى فترة كنت لا أزال غارقًا في العمل المسرحي. وربما لهذا السبب. وكنا في مراهقتنا عرضنا النص المسرحي لإدوار ألبي. استحضرتها وأنا أكتب الرواية. وجعلت منها نصًا موازيًا للعمل لأن البطلين ممثلان. وبالطبع استحضرت بعضًا من سيرتي وسيرة بعض الأصدقاء المسرحية.
أما في رواية «غبار ونجوم» الأخيرة فاستحضرت مسرحية فاندو وليز لأرابال. استحضرت بالأساس، وبعيدًا عن أسلوب الكاتب القريب من مسرح الرعب الذي لا يخلو من سخرية سوداء، المساحات الشعرية التي تلجأ الشخصيتان إليها للتخفيف من قسوة الجو الذي تخلقه المتاهة التي يعبران إلى مدينة وهمية اسمها «طارْ».
- يشكل المكان أساسا مهما في العمل الروائي، نلاحظ في أعمالك حضورا مهيمنا لمدينة الدار البيضاء، دون غياب لمدن أخرى، هل تستحضر بشكل أو آخر المكان وفضاءاته في نسيج الرواية؟
بقدر ما ظل نفوري من الأدب الرمزي شديدًا أحسست بنفسي قريبًا من الأدب الذي يجعلك تشمّ رائحة التراب الذي تمشي فوقه الشخصيات. تشمّ العرق والجهد البشري. الميسيسيبي عند فولكنر أو غابات وخلجان النرويج عند هامسون… كتبت عن الدار البيضاء، المدينة التي ولدت فيها. وعن مراكش مدينة والدتي. أحيانًا تضيق جدران المدينة عن التعبير فأهرب إلى الصحارى كما في «قط أبيض جميل يسير معي». بشكل عام رحت أميل إلى المراوحة بين فضاءات المدن والفضاءات المفتوحة كالبحر والصحراء. بشكل عام لا أكتب إلا عن الأماكن التي أعرف. وحتى إذا لم يسبق لي أن زرتها فإنني أجتهد كي أقترب منها على قدر الإمكان. بالنسبة لي لا وجود للرواية بدون المكان الذي تتنفس فيه. لابد أيضًا، بالنسبة لي على الأقل، من فضاء رحب للتخفيف من الضغط الذي تمارسه جدران شقق المدينة.
- بدأت الرواية المغربية تعرف انتشارا عربيا ملحوظا من خلال الجوائز من جهة وإقبال دور النشر العربية على الرواية العربية، هل ترى في ذلك عاملا مهما في تطور الرواية المغربية بشكل عام؟
لم تُقرأ الرواية العربية كما تُقرأ الآن بفضل ما ذكرت. هذا رواج حقيقي ولكنه نسبي، ما دام الروائي لا يعيش من مداخيل روايته. (هذا هو الميزان) هناك روايات تروج بفضل مواضيعها. وهي، في الغالب، إما ممنوعة أو محرمة. وأعتقد أن الرواية بشكل عام كانت ستلقى رواجًا أكبر في مجتمعات تقل فيها الممنوعات والمحرمات… ثم إن القراءة لها علاقة بمستوى التعليم لأنها عادة يتربى عليها الأطفال من الصغر… وتشوف تشوف…
- أين يكمن مصدر الإلهام في الكتابة بالنسبة لك؟ وهل لنمط الحياة الذي اخترته لنفسك علاقة بالموضوع، خاصة في حرصك الشديد على أن تكون قريبا من نبض المجتمع؟
في زمن بعيد بدأت أرسم دون معلم كما قلت. جاء إلي الرسم كهدية مجهولة المرسل. ربما الإلهام هو الاعتناء بهذه الهدية وما تبقى من الوقت تصرفه في صقلها. ثم تكتشف أن هذه الهدية شفافة، خفيفة كالريشة، في الغالب بلا شكل ولا لون. كفقاعة هواء موجودة في مكان ما من عقلك. وهي فقاعة ثمينة لأنها لا توجد عند جارك أو صديقك. ولكي تبقى حية تملؤها بالكلمات، تحكي لها حكايات الطفولة أو حياتك اليومية، تفرغ فيها مشاغلك وهمومك…
الكُتّاب يكتبون سيرهم الذاتية ويعيدون كتابتها بأشكال مختلفة، حتى عندما تعتقد أنهم ابتعدوا. فولكنر، هامسون، سيلين. هنريتش بول كتب رواية «الشرف الضائع» لكاتارينا بلوم ليرد على حملة صحافية ضده.
- كيف كانت علاقتك بالترجمة؟ وفي نظرك، هل حظيت أعمالك الأدبية بما تستحقه من اهتمام على هذا المستوى؟
الكتاب كالأطفال، يطمعون دائمًا في المزيد. ترجمت رواياتي إلى بعض اللغات: الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، لإحدى اللغات الهندية، وقريباً التركية؟ هل هذا كافٍ؟ الله أعلم. ما كرهناش.
يوسف فاضل.. «حياة الفراشات»
يقول تقديم الرواية: «ما إن نشرع في قراءة هذه الرواية حتى تنطلق من حولنا الموسيقى، تداهمنا من النافذة، من الجدران الصماء، من ذاكرتنا المنهكة. تتبع خطى شخصيات يتقمصها الراوي، بل تتشابك مع مصائر تلك الشخصيات وهي تمضي وتتقاطع وتنتهي على أرض غير صلبة، حيث الحب المشتعل، والمدينة الملتهبة، والجنون المتّقد، حيث الحكايات والأنغام والمقطوعات الموسيقية الصّاعدة مع دخان نادي «دون كيشوت» المحترق، والمتناثرة هنا وهناك كجثث متفحّمة.
يشيّد يوسف فاضل في «حياة الفراشات» حياة بأكملها، وإن بدت ناقصة، إلّا أنه نقصان مقصود تكشفه أيام الرواية الخمسة: السبت هو يوم الانقلاب، الأحد هو يوم عيد الميلاد، الاثنين وهو يوم الحب، الثلاثاء وهو يوم النكسة، والأربعاء وهو يوم السفر، وقبل اليوم الأخير، سنجد أنفسنا وقد عشنا هامش الهامش، ولامسنا بأيدينا أقصى القاع في مدينة الدار البيضاء، وما من بياض إلّا لسيارات نقل الموتى والنعوش وخيم الأعراس التي تتحول إلى مآتم. لنتساءل: كم هي خاسرة صفقة الحياة؟ وهل كل شيء نختاره سيكون الشيء الخطأ؟»
وفي مقطع أساسي من الرواية نقرأ: «هذا الرجل الذي يسمّونه سالم دخل مبنى الإذاعة في العاشرة صباحا. قضى زهاء السّاعتين جالسا في حجرة فارغة، ينتظر أن تفرغ قاعة التسجيل. وهو ملحّن لا يعرفه أحد. ومغنّ سجل قبل عامين أغنيتين عند بوسيفون. في بداية مشواره الفني. وجاء لتسجيل أغنيته الثالثة على مقام البياتي. يتوقّع أن يصير مشهورا. الموسيقى هي العماد، والكلمات مختصرة إلى حدّها الأقصى، حتّى لا تشوّش على تناغم الآلات وانسجام الميلوديا. أغنية كما يهواها. ولأوّل مرّة يدخل الإذاعة لتسجيلها. قضى الشهور الأخيرة غارقا في أتونها. في بحيراتها وبراكينها. وينتظر الشيء الكثير من هذا التسجيل. يفكّر في فاطمة. سترى أنها لم تخطئ الاختيار. إنه غير متعجل. حماسه يحجب عنه سريان الزمن. خياله لم يغادر مجال الأصوات الشّجية التي سيطرت عليه منذ ثلاثة أشهر. جالس في إحدى الحجرات يتمايل برأسه، وينقر على فخذه . اللحن يتمازج فيه النداء واللهفة. والانتظار… فا. صول. لا. سي بيمول. دو… لبس كالنقر على الآلة الكاتبة. يستهويه هذا التشبيه. نقر خفيف. يكاد لا يدرك. ولكنّه يهزّ كيانه، يترك في نفسه اختلاجات آسرة.
الموسيقى هي ما تتركه في النفس من أحاسيس بعد أن تصمت الآلات. الموسيقى ليست مجرّد تعاقب مقامات. ولا ينبغي أن تكون كذلك. جالس في الحجرة الفارغة ينقر على فخذه، وليس في ذهنه أدنى فكرة عمّا سيؤول إليه هذا النهار. نقْرات متسارعة. ثم بطيئة. ثم متسارعة أكثر. ذلك أنّ البياتي متقلّب المزاج. يكون هادئا ذا شجون، ثم يندفع نحو منطقة الطرب. الإيقاع سريع هذه المرة كدقّات القلب.
لا علامة في الجوّ أو على الجدران أو في ممرّات الإذاعة أو مكاتبها تعطي مجرّد إشارة عابرة على ما بدأ يحدث في شوارع العاصمة. ولكن، هناك هذا الرجل قصير القامة الذي يمشي حتّى النافذة، ثم يعود ليقف بالقرب من الباب. ينتظر بدوره أن يفرغ الأستوديو، ليسجّل أغنية تمجّد حلول عيد ميلاد الملك. هل هو مغنّ معروف؟ سالم لم يهتمّ بتوتّره أكثر من اللازم. لم يأخذ الوقت الكافي ليراه ويرى من خلال هلعه ما الذي ينبغي عليه القيام به قبل فوات الأوان. كأن يترك موسيقاه في رأسه ويعود من حيث أتى مثلا. وربما أن وقت التراجع قد فات. الرجل قصير القامة في كسوته الغامقة يطلّ من النافذة، ثم يعود إلى كرسيّه في الجهة الأخرى من الحجرة وهو يجذب رابطة عنقه ذات اللون الغامق نفسه. ولكن هذا لا يدلّ على شيء. لا يعطي فكرة عمّا يحدث في الخارج في تلك الساعة. الموسيقي جالس الآن على ما يشبه الحرير، وينصت إلى انسياب الماء في مكان ما من الكون. على مقام البياتي. ويرى أنه ماء رقراق، نازل من قمم لا تُرى، ويلمع تحت شمس الربيع… فا. صول. لا. سي بيمول. دو. ري… والشمس ترسل ما يكفي من الحرارة، لتنعش الأرض.
شمس رحيمة رغم أننا في الصيف. في عزّ الصيف. ذلك أنّ الربيع حلّ في رأسه فقط. دندنة النقر على الفخذ تخبّ في رأسه برفق، على إيقاع انسياب الماء الخيالي الذي يحجب ضوضاء الخارج. عندما سيقف سالم خارج البناية، في نهاية هذه الظهيرة، ملتفتا إلى ما جرى، آنذاك يستطيع أن يقول إنّ الوقت قد فات فعلا. بلا أدنى عزاء. ختم الزمن على مستقبله وحاضره. ولا سبيل إلى التراجع ثانية واحدة. جالس على ما يشبه بساطا من حرير. وهو ليس سوى كرسيّ من خشب، في مكتب صغير، في بناية عتيقة، اسمها مبنى الإذاعة الوطنية. في زنقة ضيّقة، اسمها زنقة البريهي. النافذة مفتوحة، ولا تصله سوى أصداء بعيدة لما يحدث في العالم القريب. والرجل قصير القامة، بدل أن يسأل عن الأستوديو ما إذا كان قد فرغ، أو عن الفرقة الموسيقية ما إذا كانت جاهزة، يذهب حتّى النافذة ويطلّ على الشارع، ثم يلتفت إلى سالم ويسأله واش وصلو؟ والرجل، الموسيقي الذي اسمه سالم، لا يعرف منْ وصل، ومنْ لم يصل. في هذه اللحظة سمع سالم أولى طلقات الرصاص».