شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

غيلان العصر

بقلم: خالص جلبي

 

في داخل كل فرد منا وحش نائم ينتظر الإيقاظ. وكل منا يمكن أن يتحول إلى الفرعون بيبي الثاني، في ما لو منح القوة بدون كوابح. وهذا القانون إنساني لا يفترق فيه عربي عن بريطاني وفرنسي عن نرويجي، لولا الكوابح، وأي سيارة بدون فرامل ليس أمامها إلا الحوادث، ولو بعد مسيرة أمتار قليلة. ومن يظن أن طيبة الأخلاق يمكن أن يوثق بها، فقد ضل ضلالا مبينا. طالما كان الحاكم تحت يده قوة هائلة بدون ردع ومساءلة. وكمية من الغاز قابلة للانتشار في أي حيز، ولو كان كل غلاف الكرة الأرضية، طالما لا يوجد حاجز يمنع من الانتشار، فهذه قوانين وجودية تمسك بالكون ما لها من مرد.

ويقول اللورد أكتون إن القليل من السلطة يعني قليلا من الفساد، وإن السلطة المطلقة تعني الفساد المطلق. ويذهب «برتراند راسل» في كتابه «السلطان Power» أنه لا مانع لدى الإنسان أن يصبح إلها، فهي متعة بدون حدود، حينما يلعب بصرر النقود والمسبحة ومصائر الناس. وحتى نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس، فليجرب المواطن حظه بالتعرض بالسوء لذكر الحاكم في مكان عام، أو رب العزة والجلالة. ولير أيهما أسرع في تحريك الأيادي واللسان إليه بالسب والأذى. إنها أفكار مزعجة، ولكنها حقائق لا يريد أحد أن يتكلم عنها.

وفي كتاب «العبودية المختارة» للفيلسوف الفرنسي «إيتيان دو لابويسيه»، الذي كتبه عام 1562 م، قام بتفكيك مذهل لآلية الطغيان أن شبكة الطغيان الرهيب تبدأ من عدة رؤوس لا تتجاوز ستة، (وفي سورة «النمل» يذكر القرآن كلمة تسعة رهط)، هي في العادة من الطاغية والعصابة حوله. الذين يتصلون بدورهم بستمائة، وهكذا نزولا في السلسلة مثل الشبكة العصبية في الجسم، تتحرك بومضة من وحي الزعيم.

ويرى القرآن أن تركيب الإنسان بني على الطغيان، طالما امتلك ورأى نفسه أنه «استغنى». والنفس البشرية مبنية على الازدواجية من الفجور والتقوى. وجمهور النحل يتفاهم بالرقص، ولكن إذا حاولت نحلة مثقفة أن تقول لزميلاتها شيئا عن الحرية بالرقص، فهي قد تستمتع بالرقصة، ولكن لن تفهم شيئا عن الحرية، لأن النحل كما يقول النيهوم: «محصن غريزيا ضد فكرة الحرية». 

وكل من شيل الألماني وتاتشر البريطانية تركا الحكم، وفي المآقي الدموع. ولو ظفر رئيس أمريكي بعرش بلد عربي، لزعم أن جده الرابع عشر كان من قبيلة كلدة والحارث. ولعل أعظم شيء فعلته أمريكا، أنها تتخلص من أي حاكم بعد بضع سنين، ولو جمع بين حكمة قورش وبطولة الإسكندر وقوة هرقل وحسن يوسف، فتقول له قبل أن يدفأ تحته: اذهب إلى بيت أمك وأبيك. أما نحن في العالم العربي فقد اعتنقنا عقيدة الثالوث المقدس في السياسة، بثلاث صور عالية. واتخذنا البابا نموذجا يحكم إلى الأبد، ولو أصبح ظهره مقوسا 95 درجة، وعلته رعشة باركنسون. وفي الفيزياء نعلم أن من يمسك السيارة هي الفرامل. ومن يمنح الصحة النفسية، هو النقد الذاتي والتوبة. ومن ينشر العدالة في المجتمع، وجود المعارضة السياسية. وفي قوانين الميكانيك كل فعل كوني له رد فعلي يكافئه بالقوة، ويعاكسه بالاتجاه. والرجل المؤمن من آل فرعون رأى أن الحكمة هي في معارضة فرعون وليس السكوت عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله. فهذه قوانين سيكولوجية اجتماعية.

وفي عدد «دير شبيغل» الألمانية 3 /2003م، قام «جيرولد بوست Jerrold post» بدراسة غيلان العصر من الديكتاتوريين. ومن الدراسات المرعبة التي قدمها، بطلب من الحكومة الأمريكية، لمعرفة نفسية هذا النفر من شواذ الجنس البشري، كانت حول «موبوتو سيسي سيكوMobutu Sese Seko»، حاكم الزايير الأسبق، ونورييغا، طاغية باناما، وبالطبع صدام حسين، خليفة نبوخذ نصر، ويجب أن يضيف سفاح سوريا البراميلي. ووصل إلى ثلاث: أنه ليس مريضا نفسيا، ويحسب حساباته بشكل بارد، وأنه فنان في البقاء على قيد الحياة، وأنه عديم الرحمة والضمير، ولا يمكن توقع ردود فعله حينما يحاصر.

ونخطئ كثيرا إذا ظننا أن طاغية العراق السابق واللاحق، هو الوحيد في المنطقة. والقرآن علمنا حكمة كبيرة، أن لا نفرق بين أحد منهم. كما نخطئ ثانية إذا توجهنا بأصبع الاتهام إلى الطواغيت، ونسينا الثقافة التي تفرخهم. كما نخطئ ثالثا، إذا ظننا أن حل المشكلة في قتلهم، لأن المستنقع الذي يولد البعوض لا يجف بقتل بعوضة.

الشعوب إذن هي التي تصنع الطواغيت، كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات، كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص. وفي عالم البشر يمكن لأي مغامر من أمة مريضة، أن يقفز على ظهر حصان عسكري إلى مركز الصدارة والتأله. وينبني على هذا تغيير زاوية الرؤية بالكامل، أن لا نتوجه إلى الزعامات المصنوعة بالكراهية، لأنها من صنع أيدينا، ونحن بالهجوم عليها نهجم على ذواتنا من حيث لا نشعر، فنحن من صنعناها. وإذا أرادت الشعوب رؤية وجهها في مرآة تاريخية، فليس عليها سوى أن تحدق في سحنة حكامها. وقياداتها السياسية هي أفضل قميص تتسربل به، قد تمت خياطته وتفصيله عند أبرع خياط. وحين ينضج الطفل فيصبح يافعا، لن يبقى أمامه سوى أن يبدل حلته. سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.

نافذة:

الشعوب إذن هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى