عشت طفولة قاسية لكنك تمكنت من ركوب صهوة النجومية، كيف استطعت الانفلات من براثن الفقر والحاجة؟
اسمي عبد الحق عشيق من مواليد 1959، أنحدر من عائلة فقيرة بالحي المحمدي بالدار البيضاء، عملت على تحدي ظروف القهر بعصامية واستطعت أن أجد لنفسي مكانة في الرياضة المغربية. وبالرغم من الظروف الصعبة التي عشتها وغياب الإمكانيات المادية، تمكنت من فرض وجودي والصعود إلى منصات التتويج في كبريات المحافل الدولية، خاصة الألعاب الأولمبية. قصتي تستحق أن تكون درسا في النضال ضد الهشاشة من أجل بلوغ هدف مسطر.
الأطفال في الأحياء الشعبية يختارون كرة القدم لعبة، أنت فضلت الملاكمة..
ككل أطفال الحي المحمدي كنت في طفولتي عاشقا لكرة القدم وللاتحاد البيضاوي باعتبار أن كرة القدم كانت الرياضة الأكثر انتشارا وقتها، وكانت الفضاءات الفارغة تتيح لطفل مثلي ممارسة الكرة دون الحاجة إلى إمكانيات، يمكنك أن تلعب الكرة وأنت حافي القدمين أو بنعل بلاستيكي رخيص. كنت في البداية لاعب كرة القدم في صفوف فريق الاتحاد البيضاوي، حيث كنت أقضي سحابة يومي في ملعب الحفرة لاعبا تارة ومشجعا للطاس تارة أخرى في زمن كانت المواهب تحظى بعناية الأب الزاولي.
متى انجذبت نحو الملاكمة؟
حين كنت طفلا ترددت كثيرا على فضاءات الفرجة في الحي المحمدي والتي كانت تعج بالحلاقي، قرب القيسارية وفي الشابو وفي أماكن متفرقة من كريان سنطرال الذي كانت غالبية سكانه تقطن في الأحياء الصفيحية. كنت أقضي وقتا طويلا في هذه الفضاءات التي تصنع الفرجة ولكنني كنت مفتونا بحلقة باحسن الذي تخصص في الملاكمة، فقد كانت حلقته تعرف نزالات بين الأطفال والشباب من كل الأوزان وبقفازات ثقيلة محشوة بالحلفاء ودون تحديد معايير المباريات يمكن لطفل وزنه 40 كيلو غراما أن يواجه شابا من الوزن الثقيل، وجدت نفسي أقضي وقتا طويلا في هذه الحلقة دون سواها. كان باحسن سعيدا وهو يدعو الأطفال والشباب لدخول حلقته من أجل التباري، وهو يردد لازمته الشهيرة “اللي بغا شلاضة بلا خبز” في إشارة لأكل اللكمات.
من الحلقة كانت انطلاقتك نحو الحلبة..
لا أنكر أن حلقات أخرى كانت تشدني وأجد نفسي واقفا وأنا طفل أتابع بلهفة وانبهار ما يقع فيها، أحيانا أتغيب عن الدراسة لأعيش لحظات ممتعة في ممارسة الكرة أو في متابعة رواد الحلقة الذين يأتون إلى الحي المحمدي قرب ما كان يسمى كريان السوق قرب مستشفى محمد الخامس حاليا. هنا كانت الحلقة هي الملاذ ليس فقط لممارسة الملاكمة بل لأعيش في فضاء يمكنك أن تستمتع فيه بالمأثورات الشعبية، حيث، إلى جانب الفرجة الترفيهية الخالصة، كان هناك الوعاظ ورواة السيرة النبوية وقصص الأنبياء إلى جانب السحرة، وأطباء الأعشاب وضاربي الفال وبائعي ألعاب الحظ “السويرتي” والمطربين والفكاهيين وطبعا الملاكمة.
متى استبدلت الحلقة بدار الشباب؟
بالإضافة إلى “الحلاقي” التي كانت تنظم بالحي المحمدي، كان هناك ملاكم في حينا يسمى محمد حجي، هذا الأخير هو من وضعني على سكة هذه الرياضة، وعلى يديه تعلمت أبجديات اللعبة، قبل أن أعود بعدها للمشاركة في نزالات “الحلاقي”، وهكذا، ومع توالي الأيام، ازدادت علاقتي باللعبة. حجي كان ينتمي لجمعية خشبة الحي المحمدي للملاكمة، كان يلقنني في سطح بيته مبادئ وقواعد اللعبة، وحين كنت أجد فسحة أعود للحلقة لتطبيق ما علمني أستاذي حتى أصبحت نجما من نجوم حلاقي باحسن. ضمني حجي لفريق خشبة الحي المحمدي وهناك خضعت لاختبار صغير وتمت الموافقة على ضمي لهذا النادي الذي كان يمارس بدار الشباب الحي المحمدي. نصحني المدرب بالقطع مع الحلقة والاهتمام أكثر بما يلقنه لي المدرب، لكنني كنت نشيطا إلى درجة أنني لعبت كرة القدم وكرة اليد والمصارعة، وداخل دار الشباب مارست المسرح وكنت أتردد على سينما السعادة وسينما شريف وأنا طفل، وحين أصبحت شابا جمعت بين الملاكمة وكرة القدم ولعبت للطاس في جميع فئاته كما التحقت بفريق شركة صوماكا لتركيب السيارات أملا في البحث عن شغل.
والدراسة، هل كنت تجد لها متسعا من الوقت وسط هذه الاهتمامات الرياضية؟
غلطة عمري أنني لم أتابع دراستي، انقطعت وكنت أترك الفصل الدراسي وأتوجه للحلقة أو دار الشباب، بسبب الوضعية القاسية للأسرة، إلى درجة كان والدي معاقا يصعب عليه تدبر لقمة عيش لأسرة متعددة الأفراد، والدتي هي التي كانت تتحمل أعباء هذا التجمع الأسري، كان الوضع مزريا، وحين انقطعت عن الدراسة وقررت مغادرة المدرسة، بدأت أسمع كل صباح موالا يؤلمني ويحفزني في الوقت نفسه، والدتي تطلب مني البحث عن شغل، تصور كل يوم توقظك أمك لتطالبك بتدبير أمرك والبحث عن لقمة عيش لأن الوضع لا يحتمل.
لكنك كنت لاعبا لكرة القدم والملاكمة، ألم يكن الطاس وخشبة الحي المحمدي يقدمان لك منحا بين الفينة والأخرى؟
نحن نتحدث عن فترة السبعينات، لم يكن الحديث عن المنح في لعبة كالملاكمة أو في كرة القدم التي كنت فيها مجرد لاعب احتياطي، لهذا لعبت مع صوماكا كي أضمن شغلا كيف ما كان، المهم أن أساعد أسرتي على تحمل أعباء المعيشة أو أتقاسم معها المحنة، في أحسن الأحوال أحصل على عشرة دراهم في الأسبوع من مدربي في الملاكمة ومرة سقطت بالضربة القاضية وحين استفقت نلت خمسة دراهم مباشرة بعد مغادرة الحلبة، وفي الفئات العمرية للطاس كان الزاولي يكتفي بمنحنا “ساندويش”. ومع كل يوم يمضي تشعر بأنك عالة عليهم. كل يوم تطالبك الأم بالبحث عن شغل، تشعر بأنك عالة على الأسرة، لذا كنت أتحاشى نظرات أبي وأمي لأنها ناطقة وفيها رسائل أفهمها.
متى قررت اختيار الملاكمة؟
عندما فزت ببطولة المغرب وأنا في ريعان شبابي، قررت، بنصائح من مدربي، رفع إيقاع التداريب وبدأت أتدرب بقوة، أركض في جنبات السكة الحديدية قرب درب مولاي الشريف وأحرص على تقوية العضلات اعتمادا على حديد السكة الحديدية، هكذا كنت رجل التحديات، بفضل توجيهات من المرحوم محمد الزروكي، بطل الملاكمة في جيله ومدربي في جمعية خشبة الحي المحمدي، هذا الرجل الذي اكتسب حب الجميع لإيثاره وأدبه وأخلاقه الرياضية العالية.