شوف تشوف

شوف تشوف

غفل طارت عينك

يبدو جليا الآن أن الرابح الأكبر في ما يحدث اليوم في العالم بعد بداية الحديث عن «ما بعد كورونا» هو الصين. فالذين كانوا يبتزونها ويحاربونها في البيت الأبيض على وشك المغادرة. والصورة التي روجها الإعلام الغربي عنها طيلة عقود، وخاصة صورة حقوق الإنسان، تغيرت كثيرا ولم يعد الإنسان الأوروبي يرى في الصيني إلا شخصا منتجا ومجتهدا. بدا هذا واضحا مؤخرا عندما بدأ الحديث عن اللقاحات الصينية والتي نالت الاعتراف من مجمعات علمية دولية. فحملة التشويه التي تعرضت لها الصين إبان بداية وباء كورونا، وخاصة قيامها بالإغلاق الشامل للولايات والمدن وفرض حظر التجول بها، لم تعد ذات جدوى، لكون أوروبا، الخائفة اليوم من موجة ثالثة لجأت العديد من دولها إلى إغلاق مدن ومناطق وتجميد الحياة العادية بها. بل ومنها من طلبت تزويدها باللقاح الصيني. فشاءت إرادة حفدة ماو تسي تونغ إلا أن يمسحوا بسرعة من ذاكرة البشر أن بلدهم كان مصدر الداء، وهاهم سيشرعون في بيع الدواء.
الانقسام الذي يعرفه الغرب عموما، وخاصة الانقسام بين الأوربيين والأمريكيين في السنوات الأربع الأخيرة، بل والانقسام غير المسبوق الذي تعرفه أمريكا نفسها عقب الانتخابات الرئاسية، كل هذا خدم الصين وفتح لها طريقا مُعبَّدة لتصبح قطبا يقود العالم الجديد. قطب اقتصادي وسياسي وعلمي، يجمع العديد من الدول التي كانت إلى عهد قريب تسبح بحمد أمريكا بكرة وعشية.
ومن يتابع خطوات التنين الآسيوي لا بد أن يكون انتبه إلى كيف شهدت بكين قبل أيام توقيع اتفاق تجاري ضخم من شأنه أن يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي بشكل كامل. بل وسيجعل التحالفات الاقتصادية التقليدية، والمتمحورة حول أمريكا، ينفرط عقدها بشكل نهائي. فلائحة الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية تتضمن، إلى جانب دول أسيوية، أستراليا ونيوزيلاندا وهما دولتان تعدان بمثابة حديقة خلفية للغرب، ديموغرافيا وثقافيا واقتصاديا. وماذا يعني أن تغير هاتان الدولتان مصالحهما الاقتصادية من الغرب إلى الشرق؟ ما هي هذه القوة التي تتمتع بها الصين لتستطيع إقناع أعدائها السابقين بأن يغيروا ولاءهم صوبها ويصبحوا مقتنعين بأن المستقبل سيكون إلى جانبها؟
لا يتعلق الأمر طبعا بتغير في القناعات الإيديولوجية أو تغيرات في مزاج الاختيارات الشعبية، فهذه مقاييس أصبحت منتهية الصلاحية في عالم اليوم، بل لأن أزمة كورونا جعلت الجميع لا يرى إلا المصالح والمنافع.
ففي الوقت الذي ينقسم فيه الأوروبيون بين داعم للإغلاق وكاره له، وفي الوقت الذي ينقسم فيه الشارع الأوروبي بسبب الانتخابات (فرنسا، أمريكا، بريطانيا…)، نجد أن الصين في غنى عن كل هذا هاهي تنفرد بأعدائها السابقين، ليس عسكريا أو سياسيا بل تجاريا، أي أنها انفردت بهم دولة دولة من بوابة المصالح التجارية، خصوصا وأن كل هذه الدول وجدت نفسها أن «إيديولوجيا حقوق الإنسان» و«نمط الحياة الغربي» لا معنى لهما عندما تجوع الأفواه وتمرض الأبدان وتنفذ السلع وتتوقف التجارة والصناعة والخدمات. وهنا ظهرت الصين بنموذجها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
أهمية الاتفاقية التي تم توقيعها تكمن في كونها شملت 15 دولة متنوعة من حيث إمكاناتها الاقتصادية، وهي ستسيطر على 30 في المائة من التجارة العالمية. ويبقى المؤكد أن طمع الصين لا يقف عند حدود هذه الدول وعند هذه النسبة، وإن كانت ضخمة وهائلة، لكنها بمعايير الصين، تبقى محدودة.
فالاستراتيجية التي تقوم بها الصين الآن هي ملء الفراغات التي خلفها انسحاب أمريكا ترامب من كل الاتفاقيات والمعاهدات، وفي الوقت الذي ترك حلفاء أمريكا يواجهون مصيرهم لوحدهم إبان كورونا، كانت الصين الحضن الدافئ الذي لا يقول لا أبدا.
قوة هذا التحالف وجاذبيته لباقي دول العالم تتمثل في نجاح كل الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية في احتواء انتشار الفيروس بشكل كبير. بل واستطاعت أن تنقذ اقتصاداتها في وقت تعاني فيه دول أخرى من وطأة الوباء عليها. لنفهم كم كان الفيروس حاسما في تغيير خريطة العالم وثقافات وأذواق وتوجهات الشعوب. وأثبتت أن الإيديولوجيات لم تعد معيارا للحقيقة بل المصالح فقط. بدليل أنه رغم كل ما قاله الأوروبيون عن استبداد الصين لكونها أغلقت المدن والحدود عادوا بعد أسابيع ليطبقوا النهج نفسه حرفيا. وفي الوقت الذي تستبعد كل الدول التي وقعت هذه الاتفاقية حصول موجة ثانية عندها هاهم الأوروبيون يتحدثون عن موجة ثالثة.
ونتيجة لهذه الفوارق في تدبير الوباء بين الأوروبيين والتحالف التجاري الأسيوي الذي تقوده الصين، ظهرت فوارق في معدلات النمو كما تم تقديرها قبل الموجة الثانية في أوروبا، حيث إن الفجوة تتسع بين دول فرنسا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين من جهة أخرى.
ما تعيشه أوروبا والاقتصادات المرتبطة بها هو ركود حقيقي يُقدِّر الخبراء بأنه سيستمر عشرين سنة. لأن لجوء بعض الدول إلى الإغلاق الشامل مرة أخرى سيعمق هذه الفجوة، لتُتوج الصين رسميا سيدة على العالم. ولا خيار أمام الأوروبيين إلا الاعتراف بهذه الحقيقة. بل إن دول آسيا المحيطة بالصين ستحقق قفزات ستجعل دولا مثلا تايلاند وفيتنام أفضل بكثير من حيث معدلات النمو من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا.
السؤال الذي بدأ يطرحه الأوروبيون الآن هو ما جدوى فكرة الاتحاد بعد كورونا؟ والسؤال هنا جدي جدا، خصوصا بعد إصرار بريطانيا على تتمة إجراء خروجها منه. إذ الحديث الذي يدور الآن هو أن فكرة الاتحاد تعتبر عائقا في التنمية، وأنها لم تعد تصلح لعالم ما بعد كورونا، لكون هذه الفكرة، وبوضعها الحالي، لن تكون لها قدرات وإمكانات منافسة وثبة نمور آسيوية فتية ذات شهية تجارية مفتوحة عن آخرها تقودها الصين دون منازع.

فمنذ تخلى ترامب عن الأوروبيين فإنهم لم يعودوا يتصرفون كقطب اقتصادي بل كدول قومية متشظية. فأوروبا بلا قاطرة تجرها. وفي الوقت الذي بدأت فيه الصين تجني أرباحها من تصاعد تجارتها العالمية، لا يزال الأوروبيون غير قادرين على حساب الخسارة، لأنهم يعرفون حتما أن الجائحة لم تنته، وأن خسائرها لم تنته أيضا.
ومن هنا يجب أن نعرف جيدًا في أي مكان علينا أن نضع أرجلنا حتى لا نجد أنفسنا في المكان الخطأ، وأي اتجاه يجب أن نأخذ حتى لا نتيه في الخريطة، وأي شريك علينا الالتزام معه حتى لا نضيع الفرص التي تمنحها الأزمة. فالعالم تغير بسرعة هائلة إلى درجة أن أغلبنا لم يستوعب الأمر بعد. وهذا ما يطلق عليه المغاربة «غفل طارت عينك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى