خالد فتحي
لا نظن أن الجزائر قد رأت في إسبانيا حائطا قصيرا، حين سارعت إلى تفجير غضبها من القرار الإسباني، الذي يدعم الرؤية المغربية لحل المشكل المفتعل بالصحراء المغربية، لا بل واستدعاء سفيرها وعلى الفور لأجل التشاور. فهي تعرف أن إسبانيا بلد ذو سيادة ولا يمكن فرض وصاية أو حجر عليه، وتفهم بالتأكيد أن البيان الحكومي الإسباني لم يكن فلتة، أو كبوة غير محسوبة العواقب، أو حتى رضوخا لما تسميه ابتزازا مغربيا لمدريد، لأن الأزمة المفتوحة بين الرباط ومدريد عمرت ما يقارب السنة، والإفراج عن قرار استراتيجي كهذا من خلال بلاغين متزامنين بين إسبانيا والمغرب، لا بد وأنه قد مر من كل مراحل صناعة القرار، من تفاوض وتفكير وردود واستشراف وتنسيق، حتى في أشكال الإعلان عنه. ولذلك فهي لا تقصد من وراء هذه الخرجة أن تحاسب إسبانيا أو أن تثنيها عن قرارها، ولكنها تريد فقط التخفيف من خسائرها، داخليا وخارجيا.
أولا، غضب الجزائر هو ردة فعل متشنجة ومتوجسة من القرار الإسباني الشجاع غير المتوقع في تقديراتها وحساباتها، لأن ما يؤرق الجزائر هو معرفة من أين استمدت مدريد كل هذه الشجاعة لتصدح بالحق، وتصطف إلى جانب الحقوق التاريخية للمغرب، بعد 47 سنة من وضعها الحصى في حذاء المغرب. فالجزائر المستقوية بغازها، والذي تظنه حيويا لأوروبا ولإسبانيا بالتحديد، والتي أدمن حكامها أخيرا على الشطحات التي لم تعد تخطئها عيون إسبانيا وفرنسا وكل دول الاتحاد الأوروبي، قد كانت تعتقد أنها بهذا السلوك الأرعن، وباتخاذها للطيش سياسة، تستطيع أن ترغم الجميع على توقي شرورها وتفادي أن يحل بهم انتقامها، ولذلك هي تلتاع من هذا الخطأ الكبير في التقدير الذي أفاقت عليه، وتخاف المعنى الكامن وراء القرار الإسباني، وهو أن تكون الجزائر قد صارت على كبر مساحتها وثرائها الطاقي، دولة صغيرة غير ذات وزن ولا يأبه بها. ولهذا لم تقصد وهي تحث خطى سفيرها إخافة إسبانيا، وإنما مراجعة أوراقها، لأن حسابات الحقل لم تعد تطابق محصول البيدر، بعد أن لم تجن من الغنيمة، عقب ما يقارب خمسة عقود من التنسيق مع المستعمر القديم للصحراء المغربية، غير الإياب خاوية الوفاض.
إن مجرد الإشادة المغربية بالقرار الإسباني كافية لكي تثير حفيظة النظام الجزائري، الذي يعتبر أنه ينبغي له أن يكون دائما في الضفة المعاكسة للمغرب. فالعقل الباطن للطغمة الحاكمة يتخذ قراراته تجاهنا تحت تأثير الحسد، وليس من خلال مراعاة مصالح الشعب الجزائري.
يغرق النظام الجزائري إذن في بحر الإحباط، وهو يرى انهيار المشروع الانفصالي الذي رعاه بجنوب المغرب. فالعودة النصوح لإسبانيا إلى جادة الحق، تنزع ورقة التوت عن البوليساريو، وتترك الجزائر وحيدة في حضانتها لهذه الجبهة اللقيطة، التي تخلى عنها الكفيل الآخر. لذلك ستطرح عليها مشكلة لم تستعد لها، وهي أن تمضي وحيدة في مناكفة المغرب، لا تدري هل تمسك ربيبتها المكلفة على هون، أم تتخلص منها. إسبانيا تورطت في استقبال غالي على يد الجزائر، وكلفها ذلك غاليا من مصالحها مع المغرب، ولم يعد بإمكانها أن تستمر في مداراة الجزائر ضدا على مطالب نخبها الاقتصادية. انبثاق مثل هذا الوعي هو ما تخشى الجزائر أن تنتقل عدواه إلى الداخل، وإلى نخبها الاقتصادية والسياسية الرصينة، التي لا بد وأن تنتبه إلى أن دولتها إن لم تكن ظالمة، فهي فضولية ومتطفلة على نزاع تقول إنه لا يعنيها، وإلى أن النظام يصرف ملايير التنمية على رهان خاسر أصبح الكل يتهرب منه. ففرنسا ستتبع إسبانيا، وكذلك ما تبقى من دول الاتحاد الأوروبي التي لن تكون بالتأكيد أكثر جزائرية من الإسبانيين، الذين يعرفون الكواليس الأولى، وطبيعة المؤامرات التي حيكت ضد المغرب. ولقد بدأت إرهاصات هذا التغيير تتوالى، فأوروبا الآن تعرف أن المغرب خرج قويا منتصرا من رحم الجائحة، وأنه مستقر، وآمن، وموثوق به، ولا يعاني أزمة شرعية للنظام كما الجزائر، وهي أيضا تريد أن تتخلص من أي ابتزاز مستقبلي من طرف الجزائر بسبب الطاقة. ولذلك من المستحيل أن تترك لهذا النظام أية إمكانية لكي يتمدد أكثر، من خلال خلق جمهورية وهمية تدور في فلكه، وهذا تحول سيستوعبه عسكر الجزائر بعد هذه الانعطافة، أن أوروبا لن تسمح بأي حرب في شمال إفريقيا، يكفي ليبيا، فكل حرب في جنوب ضفة المتوسط هي في العمق حرب أوروبية، فهل تطيق أوروبا حربا في شرقها وأخرى في جنوبها؟
كل التطورات تسير في ركاب المغرب، الذي نجحت استراتيجيته وديبلوماسيته الرصينة في إقناع الوازنين دوليا بجدية موقفه. لذلك يكون من المجدي أن تستفيد الجزائر من التجربة الإسبانية، وتقوم بدورها بالمراجعة اللازمة، وتعترف بالحق المغربي، ولا تكون آخر من يفعل ذلك. الجزائر ستنتصر إذا تغلبت على عنادها، وطوت هذا الملف المفتعل، وشمرت عن ساعدها جنبا إلى جنب مع توأمها المغرب، لبناء المغرب الكبير. هذا هو أمل الأجيال الحالية والقادمة للشعب المغاربي، والتي تنظر بعين الاشمئزاز لخلافات الآباء والأجداد التي يجب دفنها، للاتجاه يدا واحدة نحو المستقبل الواعد.
نافذة:
يغرق النظام الجزائري إذن في بحر الإحباط وهو يرى انهيار المشروع الانفصالي الذي رعاه بجنوب المغرب فالعودة النصوح لإسبانيا إلى جادة الحق تنزع ورقة التوت عن البوليساريو