غرفة مظلمة جدا
أطفئ أباجورتي الصغيرة، وأشعل- معكم- غرفتي المظلمة جدا، لن أتحدث هنا عن كبار سياسيينا؛ أو من اكتووا بنار الخذلان ولم تشف دموعهم بعد. ولن أتحدث عن الوردة التي صار لونها بنفسجيا أكثر مما كانت عليه، ولن أتحدث عن أحلام لينين التي يحملها أطفالنا على أكتافهم الناعمة، وهم لا يعرفون ماذا ينتظرهم عندما تصبح أكتافهم غير مجدية في حمل الأحلام نفسها.. لست سوداوية، ولست من مروجي العدمية التي صارت ليس تهمة فقط، بل جناية يرتكبها ممن يتحدثون عن كل شيء إلا عن أحلامنا المجهضة. من أنتم حتى تدمروا البلاغة في إنسانيتها؛ البلاغة التي لا أعرف لماذا صارت نيئة لهذا الحد عوض أن تطبخ بالأفعال، وليس باللعب على من تجرعوا سموم الوعود بما يكفي من مرارة؟ هل تستطيعون الآن أن تكشفوا لنا قبل انطفاء النور مرة أخرى، حقيقة النور الواهم الذي يتفنن أمام عدسات الأرواح الوهنة جراء ما تعيشه من خيبات متتالية. إني أرى اليأس يجرفنا جميعا حتى وإن كنا غافلين أو نتغافل.. لن أتحدث عن الذين فضلوا أقبية الأرض عوض أن يعيشوا معطلين مع نضالهم المستميت من أجل الحق في حياة تنعم بالكرامة، هؤلاء الذين يموتون ويتحولون إلى مادة دسمة للصحف والمواقع الرخيصة، عن هؤلاء الذين كانوا في أوائل الصفوف، وكيف تحولوا بقدرة قادر إلى علب مفخخة لليأس، هؤلاء الذين يتقيؤون الفشل بعدما وجدوا أنفسهم سواسية مع من كانوا خارج التاريخ، وخارج المعنى، وخارج الخارج. صار الأمر سيان سواء أكنت متفوقا أم لم تكن، صار الأمر أكثر إيلاما من أي وقت مضى. ماذا يعني لنا أن تحصل طالبة جادة على «مستحسن» في شعبة العلوم التجريبية، ولا تستطيع أن تلج تخصص الطب أو الصيدلة باعتباره حلما لرجاء ترفع علم الوطن في رياضة التكواندو، وتحرم مرتين من تحقيق حلمها في الرياضة والدراسة، وتضطر إلى أن تفكر في مغادرة المغرب نهائيا، وتبحث عن أي طريق يساعدها للخروج من دائرة اللاحلم، حتى وإن تطلب الأمر بيع الجنسية المغربية، وكنت سأهمس لها، وأخبرها أن هذا التخصص في بلدنا صار مضيعة لـ«الورق»؛ لأنه هُجِّنَ بالسياسات التي يتقنها من لا فن له في الحياة سوى قتل وهضم وبتر أحلام الفقراء والطبقة المتوسطة في هذا الممر الضيق من تاريخنا، أما عن الطلبة الذين ناضلوا طويلا كي يحصلوا على معدلات تحميهم من شر السؤال داخل المجتمع، فما ينتظرهم بعد حصولهم على إجازات تسمح لهم بإجازات مفتوحة تماما، ومن دون تعويض عن الانتظار، لا حق لهم في النحيب الآن. أما عن مؤسساتنا فهي تفتح أقسامها ونوافذها على الهواء، من منا يستطيع أن يعترف بفشله وأن يغلق فمه عن لسان يتبجح بفتوحاته الدونكيخوطية، وتلاميذ في مناطق هامشية جدا قلما نسمع عنها يعيش أبناؤها بعيدا عن الحق في التعليم الذي يضمنه الدستور، ولم يستطيعوا أن يدرسون مادة الإنجليزية لسنة كاملة في السنة الثالثة، وفي هذه السنة ربما ستعمم فائدة هذا الاختراع الحكومي لتشمل مواد أخرى ومدنا وقرى ومداشر. من منا بإمكانه أن يوقف هذا النزيف في الصحة، وفي التعليم، وفي الخبز، وفي الوطن، من منا سيشعل النور في قلب هذه الغرفة المظلمة جدا؟ هل من أحد يحمل في روحه قلب هذا الوطن، أم أنه ليس وطنا للجميع، بل وطن للذين يعرفون كيف يدخلونه في جيوبهم المثقوبة بعرق البسطاء. إن الحق اليوم بات في مهب الريح إن لم يكن مهددا بالزوال، أليس من باب الشجاعة أن نعترف بفشلنا عندما نعاقب ألسنة اللهب بالماء كي نتقن دور البطولة في مسرحية رديئة جدا؟ أرى أطفالنا يكبرون ويتكاثرون في مسح أحذية الأرصفة الباردة، ويبيعون علب «الكلينكس»، ويتسولون كراسي المقاهي والمحطات والمطاعم، ويستغلون في كل شيء لا يعلمون عنه شيئا، وتنتهك أجسادهم في حملات مدمرة للمستقبل، ولما حملات تدمر مستقبلهم إن وجد أصلا.. إنها حملات انتخابية معطوبة ومعصوبة الأحلام، لا حق لنا ونحن نمارس الاختلاف إلا في إبداء قليل من النور الخافت الذي لم يعد إلا حكاية في أوراق تلون أزقة مبلطة بدموع البسطاء والمقهورين، بسطاء هذا المغرب في حاجة إلى غرف بها هواء، وليس هواء مطاطيا كاتما لكل الأحلام. من منا يريد أن يشعل ضوء الأمل في أعين شبابنا وشاباتنا، لا أحد يجرؤ على أن يجهر بقوة السواد الزاحف الناعم.