شوف تشوف

الرئيسيةخاص

عِلمُ الأوبِئة.. المرَض وَوهمُ الصِّحَة المُطلَقة

بدر الحمري
من الأمور التي تَنبَّهنا إليْها اليوم في أزمتنا الصحية العالمية المعاصرة مع فيروس كوفيد-19، أن هناك أوبئة فتاكة بصحة البشرية تعيش بيننا، ويمكنُ أن تظهر في أي وقت، حسب الظروف الطبيعية وسياقاتها البيئية، كما تنبهنا أيضاً إلى أنّ هناك علوما ظلت إلى الأمس القريب في محل النسيان عند كثير منا، أو علوماً لا مُفكر فيها بشكل جمعي، مثل علم الأوبئة، وربما جاء هذا على حساب علوم أخرى في طياتها تتصل بعلوم الطب أيضاَ.

اليوم صارت كلمة «وباء» من الكلمات التي تنشط بيننا بشكل كبير، فيكفي أن تسأل محركات البحث الرقمية لتقدم لك نتائج بالملايين. ولا يوجد بيت لا يتحدث اليوم عن وباء كورونا المستجد، أو الأوبئة التي مرت في التاريخ. فما هو علم الأوبئة، وما صلته بالمرض، وما الذي كشف عنه من أسرار بخصوص صحة الإنسان، أو بصيغة أخرى بماذا يقوم علماء الأوبئة؟ وهل هناك صحة مطلقة لدى الإنسان؟

علم الأوبئة تظهر فعاليته أكثر في الأمراض المُعدية
ما من شك أن علماء الأوبئة يعملون بشكل مكثف في الأيام غير العادية من أجل تجنيب الإنسانية كوارث صحية مميتة، واليوم مثلا فهم يعملون بجهد كبير من أجل مساعدة زملائهم في الطب التنفسي على إيجاد العقاقير المناسبة للقضاء على وباء مثل فيروس كورونا المستجد؛ فهذا المرض يذكرنا بما وقع في 26فبراير سنة 2003، فعندما طلب المستشفى الفرنسي بهانوي في فيتنام مشورة منظمة الصحة العالمية في هانوي بخصوص مريض يعاني من أعراض تنفسية تشبه الأنفلوانزا، ليجيب عالم الأوبئة الطبيب المتخصص في الأمراض المعدية د. كارلو أورباني عن طلب المستشفى، بل وشارك في العمل وسط بيئة وصفتها الوثائق بأنها خطرة، بل إن الدكتور أورباني كارلو كان يعلمُ أنها شديدة الخطورة. وبعد أن أطلق تحذيراً عالمياً الذي تبنته شبكة المراقبة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، سقط أورباني ميتاً أثناء رحلته إلى بانكوك وتوفي يوم 29 مارس الماضي. بعدها ظهرت حالات جديدة بالمستشفى الفرنسي نفسه، وفي هونج كونج وتايوان وسنغافورة والصين وكندا أيضاً. فتضافرت الجهود العلمية من أجل احتواء المرض، ليتطلب الأمر أربعة أشهر من أجل تحديد سبب المرض. وهو واحد من الفيروسات ( من عائلة كورونا ) الآتية من الحيوانات البرية التي يجري تناولها كطعام في مقاطعة جوانجدونج الصينية. وبحلول عام 2003 تم إيقاف انتشار المرض، الذي كان ينتشر بسرعة بفعل الرحلات الجوية، وبين المسافرين المصابين به، مخلفاً 8000 حالة إصابة، و800 حالة وفاة، وأطلق عليه اسم مرض سارس وهو اختصار لجملة طويلة، وهي: المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة. العمل كان مضنياً من أجل إيقاف انتشار الفيروس، وعلم الأوبئة كما تشير الدراسات كان هو العمود الفقري لتلك الجهود؛ إذ جمع بين الأبحاث التي أجريت حول المجتمعات السكانية التي أصابها المرض وبين الدراسات التي قدمت المعرفة اللازمة للتدخلات المتعلقة بمكافحة المرض.

ما هو علم الأوبئة؟
علم الأوبئة أو Epidemiologyمشتقة من كلمة Epidemic التي يقصد بها وباء، المشتقة هي الأخرى من الجذرين اليونانيين epi التي يقصد بها (بين ) و demos التي تعني ( الناس )، أما logy فيقصد بها علم، فتصبح الكلمة كاملة علم الوباء أو العلم الذي يهتم بدراسة الأمراض المنتشرة بين الناس مثل سارس، حيث يتطلب الأمر أبحاثاً ومقاربات وإحصائيات طبية وسكانية، وكذا دراسة الأمراض المستوطنة في مكان ما. وفي كلمة واحدة يمكنُ القول إن علم الأوبئة هو « علم يدرس الصحة والمرض داخل المجتمعات السكانية « من أجل السيطرة عليها.

أبقراط والإرهاصات الأولى لعلم الأوبئة
منذ حوالي القرن الرابع قبل الميلاد كانت كتابات الطبيب اليوناني أبقراط من أولى المقدمات التي وصفت لنا أمراضا عديدة، مثل التيتانوس، والتيفوس، والسل. من خلال منهجه العلمي القائم على الملاحظة والحدس في فهم العلل. لقد ربط أبقراط المرض ببيئة المرضى وبأسلوب حياواتهم، وأنشطتهم، وهل هم مغرمون بالتريض والعمل الشاق أم شرهون للطعام ويركنون إلى الكسل. كما ربط المرض بتغير فصول السنة، والرياح والأمطار الشائعة بكل موضع، والمياه وطبيعتها.

مرحلة التطور
بعد قرون انتقل علم الأوبئة من الملاحظة والوصف إلى التحليل والوصف الكمي للأمراض في المجتمعات، أي التجمعات السكانية؛ كانت البداية ثورية مع جاليليو جاليلي ( 1564-1642) الذي وفق بين الملاحظة وقياس الظواهر تجريبياً بهدف استكشاف القوانين المتحكمة فيها، ومن ثمة صوغها رياضيا، ثم تلا ذلك عمل جون جرونت ( 1620-1674) في تحليل بيانات كمية بالغة الدقة حول الوفيات ومعدلاتها بين السكان، ومقارنة ذلك بين النساء والرجال، وتصنيفاً حسب نوع المرض ومدى خطورته. ثم بعد ذلك تطور علم الأوبئة ليشمل بيانات العمر والجنس، والأحداث المحورية مثل الولادة والوفيات. ثم الاحتمالات أو المصادفة.
في بداية القرن 19 كانت كل الأفكار المؤسسة للوبائيات قد تمت بالفعل؛ ففي فرنسا مثلا برز بيير شارل ألكسندر لُوي الذي وصل إلى نتيجة أساسية وهي أن تأثير أي علاج لا بدّ من تقييمه من خلال الأشخاص قريبي الشبه ببعضهم البعض الذين تلقوه والذين لم يتلقوه بعد.
أما في لندن خلال منتصف القرن 19 فقد كانت أعمال جون سنو في مجال التحليلات الوبائية عميقة تمكننا من أخذ تدابير وقائية من الأمراض المعدية، ومن المعروف أن جون سنو هو الذي أجرى أبحاثا على حالات تفشي الكوليرا أدت إلى معرفة سبب المرض وهو شرب المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي. وسمح هذا باتخاذ احتياطات صحية ( النظافة) من أجل الحيلولة من دون تفشي المرض قبل معرفة محددة بالعناصر الضارة، ليتضح فيما بعد ( حوالي 20 سنة) أن السبب يتصل ببكتيريا تسمى بفيبريو كوليرا تخرج من براز مرضى الكوليرا وينتشر عبر شبكات الصرف الصحي.
وفي النصف الثاني من القرن19 سيحدث تقدم هائل في مجال ربط العلوم الإنسانية بعلم الطب، حيث ستؤكد أبحاث عالم ألماني هو رودولف فيرشو أن الصحة والمرض ليسا من الطب الحيوي فقط، وإنما من العلوم الاجتماعية التطبيقية أيضاً. فأصبح ينظر إليه اليوم بوصفه المؤسس الفعلي لعلم الأمراض الخلوية، وينظر إلى أبحاثه الوبائية بكونها مدَعمة بأبحاث اجتماعية. ومنذ ذلك الحين تطور علم الأوبئة في صلات قوية مع علوم أخرى دعمته مثل علم الإحصاء الذي يحضر بقوة في أي عمل علمي له صلة بالوباء.

مجالات علم الأوبئة
حتى نتبين العمل الجدي والمضني والوطني الذي يقوم به علماء الأوبئة والأطباء فهذه بعض تلك الأعمال كما وصفتها الدراسات العلمية المعاصرة، على أنهم:
-يراقبون ما يحدث في عينة من الناس.
-يسجلون تغيرات متصلة بالصحة.
-يطرحون الأسئلة.
-يحللون الدم.
-يحصلون على قياسات للجسم.
-يقومون بإجراء تجارب على لقاحات جديدة.

لقد حددت الأبحاث المعاصرة مجالات خمسة رئيسة داخل علم الأوبئة:
1.علم الأوبئة الوصفي: يصف الصحة والمرض واتجاهات كل منهما مع مرور الوقت لدى مجتمعات بعينها.
2.علم الأوبئة السببي: يبحث في العوامل الخطيرة أو النافعة التي تؤثر في الحالات الصحية.
3.علم الأوبئة التقييمي: يقيّم آثار التدخلات الوقائية، ويقدر كمياً مخاطر إصابة الأشخاص المعرضين للعوامل الخطيرة بأمراض معينة.
4.علم أوبئة الخدمات الصحية: يصف ويحلل عمل الخدمات الصحية.
5.علم الأوبئة الإكلينيكي: يصف المسار الطبيعي لمرض ما في مجتمع من المرضى ويقيم آثار الإجراءات التشخيصية والعلاجات.

سراب اسمه الصحة المطلقة
في القرن 21 أكد رودولفوساراتشي، بخبرته العلمية الدقيقة، باعتباره واحدا من أكبر علماء الأوبئة، أن داخل أي مجتمع، لطالما كان المرض يحشد الاهتمام بالمرضى وفي الوقت نفسه بالقوى المتعددة سواء الطبيعية أو ما وراء الطبيعة أو الخرافية من أجل مكافحته.
غداة الثورة العلمية في القرن17 كان الاهتمام بمقاومة المرض من زاوية نظر علمية، لكن هذا الاهتمام «أنتج قرنان من تنمية الرأسمالية الصناعية مزيدًا من التحول التدريجي في العناية بالمرض وعلاجه والوقاية منه، حتى وصلت في النصف الثاني من القرن العشرين إلى مرحلة «الصناعة الصحية» الناضجة، التي صارت اليوم واحدةً من أكبر القطاعات الاقتصادية في البلدان المتقدمة». فيه مضاربة ومنافسة وتمويل دولي واحتكار.
وفي ظل الأزمات الاقتصادية أصبح العالم مهددا بتفشي ظواهر خطرة مثل المجاعة، وما يستتبعها من أمراض فتاكة، أقلها الكوليرا ! مما ينعكس سلباً على الأحوال الصحية لكل البلدان.
وبالتالي فإن دعاية « الوقاية» من المرض قد تصير من الأمور المضللة لأنه، في حالات كثير من أنواع المرض كالآيدز (فقدان المناعة المكتسبة) مثلا تكون فتاكة، لا علاج لها. وهناك مثال آخر، يقدمه رودولفوساراتشي وهو المتاجرة بالمرض؛ أي توسيع نطاق تعريف الأمراض القابلة للعلاج بحيث تتلقى حتى أقل الحالات المرضية وطأة وأكثرها التباسًا علاجًا طبيًّا. فهناك أنواع من السلوكيات الطبيعية التي تصنف باعتبارها أمراضًا في حاجة لعلاج، مثل حالة تململ الساقين أو الاضطراب الجنسي العام لدى النساء.

مأزق الطب والطبيب النفسي
عندما يجتمع الخوف مع المرض يكون الحل الوحيد هو الذهاب إلى الطبيب، ويصير المطلوب منه هو وصف العقاقير والخضوع لاختبارات وفحوص وتلقي علاجات طبية سعيًا وراء سراب اسمه الصحة المطلقة. وهو سراب في شكل صراع أزلي بين الإنسان وجسده، بين الحياة والموت، أو قل بين حب البقاء والرّحيل، فلا أحد منا يحب الموت أو يكره الحياة، فما بينهما تتقاذفنا الأمواج.
واليوم تبين لنا أنّ البشرية تطلب من العلم والتقنية المزيد من السكينة الصحية من خلال المطالبة بعقاقير لفيروس كورونا المستجد، فيصبحُ من الممكن أن تتضافر الجهود بين علوم أخرى وأطباء آخرين غير أطباء التنفس أو الطب العام وأقصدُ هنا علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي والأطباء النفسيين خاصة، لأنهم على أهمية بالغة ولا تقل قيمتهم العلمية وخبرتهم في التعامل مع المرضى بعد أطباء الخط الأول، لأنه بعد ارتفاع نسب الإصابة تصبح حاجة الناس إلى الطمأنينة ملحة من أجل مواجهة الخوف. وإذا علمنا أن هناك أخبارا وعلوما زائفة تغذي هذا الخوف فإن حاجة كل هؤلاء تكون أشد وأقوى من أي وقت مضى.

الوقاية خير من العلاج
بمفهوم دقيق يقصد بالوقاية تجنب عوامل الخطر المباشرة أو غير المباشرة المؤدية إلى الإصابة بأي مرض، وأيضاً من أسباب الوقاية التشخيص المبكر خاصة إذا كانت هناك أعراض لبدايات المرض. ومن أنجح أسباب الوقاية الالتزام بالحجر الصحي في فترة الوباء واتباع النصائح الطبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى