شوف تشوف

الرأيالرئيسية

عُزلة أخرى..

منطقة «تيگوگا» كانت تستحق أن تصل إلى نشرات الأخبار، إنصافا للمؤهلات الطبيعية التي تزخر بها، لكن لم يسمع بها أغلب المغاربة إلا عندما تحولت إلى نقطة معزولة بالثلوج هذا الأسبوع، ويصبح سكانها محاصرين حرفيا.

ورغم أن المنطقة استفادت من مخطط رفع العزلة عن العالم القروي في السنوات الأخيرة الماضية، وأصبح يربط بينها وبين مدن الإقليم خط طُرقي معبد، إلا أن سكان «تيگوگا» كانوا دائما في عزلة، ويضطرون إلى السفر لقضاء أغراض تبدو لبقية المغاربة عادية تماما، مثل تعبئة عدادات الكهرباء، ومحنة التزود بالمواد الغذائية من الأسواق الأسبوعية.

دائما ما كانت السيول والثلوج عدو الإنسان الأول في إقليم تارودانت، إذ إن البغال تعجز عن تسلق المنحدرات الوعرة، بل وتصبح قرى بأكملها تحت رحمة انجراف التربة.

إقليم تارودانت يبقى أكبر إقليم في المغرب، يضم عددا هائلا من الدواوير والقرى المنسية حرفيا. والدواوير التي تتصل بـ«تيگوگا» يوجد بها أناس لم يسبق أبدا لأي مسؤول أن زارهم ليسمع مطالبهم، وحتى عندما ينزل هؤلاء القرويون إلى تارودانت، فإنهم يقفون في الغالب قرب بوابة قسم الأموات في مستشفى المختار السوسي في انتظار السماح لهم لإلقاء النظرة الأخيرة على موتاهم الذين لا يزالون يموتون بلسعات الزواحف وتأخر التدخل الطبي في حالات الأزمات القلبية المفاجئة.

وعندما يكون موظفو تارودانت في الطريق نحو الحي الإداري على متن سياراتهم ودراجاتهم الهوائية، تصطدم أعينهم بسكان الدواوير الواقفين قرب البوابة منذ ساعات الصباح الأولى. لا يسألون أحدا ولا يسألهم أحد. ثم يعودون أدراجهم إلى «تيگوگا»، حيث لا أحد يزورهم إلا السياح الأجانب.

هناك حكايات كثيرة ترتبط بالمنطقة، منذ عهد الاستعمار، إذ إن الإدارة المركزية في تارودانت كانت تسيطر على كل دواوير الجبال اعتمادا على تجمعات الأسواق الأسبوعية التي يأتي إليها التجار والفقهاء والفلاحون والمرضى بكل أنواع الأمراض. وعندما كان الحاكم العسكري الفرنسي يتجول بين خيام السوق، كان أعوانه ينقلون إليه أخبار الأهالي. وعندما كانت فرنسا في حاجة إلى العمال لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية، رُحل سكان منطقة «تيگوگا» النواحي على متن الشاحنات إلى فرنسا ليصبحوا الجيل الأول لمهاجري المنطقة في الديار الأوروبية.

ويوجد اليوم مهاجرون في أوروبا ينحدرون من إقليم تارودانت، يشتغلون في مناصب مرموقة ويسيّرون شركات كبرى خصوصا في فرنسا، ويدفعون تبرعات مادية بسخاء، ويُرسلون مساعدات إلى المدارس تتضمن سيارات نقل التلاميذ والحواسيب وحتى الأدوية للمستوصفات الإقليمية. بل ويجمعون تبرعات لترميم المنازل الآيلة للسقوط ويوزعون النظارات الطبية على المسنين ويمولون حملات تلقيح الرضع.

وهؤلاء المهاجرون لعبوا دور الحكومة لسنوات طويلة وفكوا العزلة حرفيا، عن أقاربهم، ولا يزال الجيلان الثاني والثالث منهم إلى الآن يقومان بالمهمة نفسها.

مشهد المروحيات وهي تنقل المرضى والنساء الحوامل، في نواحي ورزازات، التي لا تختلف بدورها في شيء عن نواحي تارودانت، لا يمكن أن تلخصه الكلمات.

أناس تحدى أجدادهم الطبيعة قبل قرون وشيدوا القلاع واحتموا بها في مواجهة جيش فرنسا، وقبله لمواجهة غارات القبائل الأخرى أيام السيبة، بقوا صامدين في مواقعهم رغم إغراءات الهجرة نحو المدن، خصوصا الدار البيضاء.

وحتى الذين هاجروا منهم لديهم ارتباط وثيق جدا بمنطقتهم، ويأتون إليها سنويا، رغم وعورة المسالك. وهؤلاء من يفكون العزلة فعليا عن سكان المنطقة.

العزلة التي فرضتها الثلوج هذه الأيام على مداشر إقليم تارودانت ليست إلا محطة في مسلسل العزلة المعنوية الكبيرة التي يعيشها مواطنون مغاربة بسطاء. أما الثلوج فتنزل كل عام.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى