عين الطفولة
في زمن مضى كنت صغيرة جدا وكنت جميلة.. جميلة جدا، جميلة لأنني كنت أفعل أشياء لا يمكن أن توصف إلا بالجميلة.. كنت أدرس جيدا وكان المعلمون يشيدون باجتهادي ومواظبتي وحسن سلوكي وأخلاقي.. كنت أفهم معنى المسؤولية أو ربما كنت أشعر بها أكثر، لأنني ما أجلت عمل اليوم إلى الغد قط. كنت أرى المعلم هرماً يجتمع فيه ما تفرق في غيره، وكنت أصدق كل ما يقول وما يلقن، وأحفظه عن ظهر قلب… أذكر أن معلمة الفصل الأول (التحضيري) وكانت تدعى (فتحية)، كانت في غاية اللطف والجمال والأناقة، بل إن مفهومي للشياكة والأناقة ظل لسنوات مرتبطا في خيالي بالمعلمة (فتحية) التي حاولت جاهدة تقليدها لكنني فشلت تماما..
كان شعرها أسود حريريا وكان شعري قصيرا كقصة الذكور، ولم يكن حريريا، بل إن أمي التجأت لطرق عديدة كي تجعل منه الشعر المثالي للفتاة لكنها فشلت بدورها… وكانت المعلمة (فتحية) ذات قوام رشيق تلبس فساتين جميلة، كل يوم ترتدي فستانا مختلفا في الشكل واللون، عيناها سوداوان واسعتان ومائلتان قليلا مثل الكوالا، وكانت تضع أحمر شفاه براق.. على أن شفتيها كانتا شديدتي الحمرة حتى من دون أحمر شفاه، وكانت ابتسامتها ساحرة وصوتها رنانا وجذابا، وكانت تزين خدها الأيسر قرب الشفتين شمَّةٌ سوداء.. عندما رأتها أمي أول مرة قالت لي: معلمتك تشبه سميرة توفيق، وسألتها من تكون سميرة توفيق، أهي معلمة بمدرسة أخرى؟ فضحكت وقالت لي إنها مطربة أردنية سأجعلك تعرفينها عندما تغني في التلفزة، عندها ستكتشفين حجم الشبه بينهما، لكنني كنت أحب معلمتي مثل حبها لي تماما، فقد كانت تفتح حقيبة يدها وتخرج بعض الحلويات أو الشوكولاته التي كانت التلميذة (سعيدة) تواظب على إهدائها إياها، لأن أب هذه الأخيرة كان يعمل بجبل طارق ويأتي محملا بالهدايا والحلويات والبسكوتات والعصائر، فكانت التلميذة تملأ محفظتها من الفائض وتأتي به إلى المعلمة.. لم تكن تتخفى من أجل إعطائها بل كانت تقدم لها ما جادت به أريحية أسرتها علنا وأمام التلاميذ، وفي مقابل ذلك كانت المعلمة تأخذها منها وتضعها مباشرة في حقيبتها.. ولا أذكر أنها كانت تردد أية عبارة، فقط تكتفي بابتسامة إذا أعجبها شيء من ذلك. وعندما تطرح سؤالا أكون دائما أول من يرفع الأصبع للإجابة، وكانت تأذن لي دائما لأن لديها يقينا بأن إجابتي صحيحة، فتقول للتلاميذ: هل سمعتم زميلتكم؟ إنها مثال للاجتهاد والتفوق، لا تخطئ أبدا، عليكم أن تحذوا حذوها، حاولوا أن تكونوا ببعض ذكائها وفطنتها… كنت أحب هذه العبارات وأحب طريقة زجرها للكسالى، ثم تخرج من حقيبتها كما أسلفت، بعض الحلويات وتمنحني جزاء اجتهادي.. (يتبع…)