شوف تشوف

الرأي

عين الطفولة

أذكرُ مرةً دخل المدير وطلب منها تلميذا أو تلميذة، ليصطحبه إلى القسم الخامس حيث يوجد بعض التلاميذ الذين يقل مستواهم بكثير عن مستوى القسم الخامس، فرشحتني من دون تفكير، ونادت علي بكل ثقة: «سناء تفضلي».. فنظر إليَّ المدير وقال: «هل هذه التلميذة مجتهدة؟»، فأجابت المعلمة: «نعم ولا أناقش هذا الأمر، وليس لدي أدنى شك بأنها ستكون مقنعة جداًّ».. فأمسك المدير يدي وذهبنا صوب القسم الخامس لأجد تلميذة تقف أمام السبورة الكبرى، وهي ترتعش ولا تجد جملة مفيدة ترد بها.. كان المعلم يسألها عن العدد الحاصل لعملية جمع، فأجبتُ مباشرةً ومن دون تردد، وطلب المدير من التلاميذ أن يصفقوا لي، لكن التلميذة التي أخفقت في الإجابة لم تكن بسيطة مثلما خيل إلي، فقد اعترضتْ سبيلي عندما انتهت الحصص الصباحية وخرجنا في اتجاه منازلنا، ولقنتني درسا عنيفاً لم أنسه بعدها أبداً، وصرتُ أخشى أن أصادفها في طريقي، كما أصبحت أتوجس خيفةً أن يأتي المدير لاصطحابي لأي فصل آخر.
كانت الاختبارات المدرسية تُجرى خلال أربع دورات في السنة، وأذكرُ جيداً أنه في كل دورة كنت أحصل على معدل يفوق 9/10، وفي الدورة الأخيرة كان المعدل 10/10، كما أنني حصلت على الرتبة الأولى خلال الدورات الأربع. كان دفتر الاختبارات صغيرا من حجم 24 ورقة، وكانت المعلمة تسطر به جدول الدورات، كنت أحمل الدفتر مستبشرةً ليراه أبي وأمي بعدما تحضنني المعلمةُ وتطبع على وجنتي قبلةً وتهنئني بافتخارٍ، وتقول لي: «هكذا نبغيك ديما وتحمرلي وجهي قدامهم كاملين»، ما كنتُ لأفهم من حديثها سوى العبارة الأولى والأسهل… وعندما كنتُ أقدم الدفتر لولي أمري، أبي يعني… كان يفرح كثيراً ويحملني عالياً ثم ينادي على أمي لكي تحضر مشهدا تاريخياً…
ــ «أنظري، مثل كل مرة، الرتبة الأولى وباللون الأحمر، أنظري إلى ملاحظة المعلمة إنها تقول: «تلميذة ذكية مجتهدة ومواظبة، وتستحق كل التنويه»»..
ثم يأخذ أبي قلماً ليوقع بخط يده ثم يكتب العبارة التالية: «هذا بفضل مجهوداتك أيتها المعلمة الكريمة النبيلة»… ثم «يمضي»، لكنه لا يمضي إلى حال سبيله حتى يردد العبارة المعتادة: «إنها ابنتي ورثت الذكاء والفطنة عني»، فيجن جنون أمي وترد عليه قائلة: «ولِمَ لا تقول إنها ابنتي أنا وورثت الذكاء والفطنة عني أنا مثلا؟ كل شيء جيد تُنسبهُ إلى نفسك»… وككلِّ مرة تنقلب الأمور على عقبيها فلا فرح ولا مرح، بل صراخ وشد وجذب… كان الوالد يقدس مهنة التعليم رغم استقالته من هذا القطاع في بداية السبعينات من القرن الماضي، لأن شغفه بالتجارة والشطارة كان يفوق تبجيله للمعلم، ما كان يتسبب في تقصيره تجاه الالتزام بشروط وظيفته، حيث كان يستغل عطلة نهاية الأسبوع للبحث عن فرص أخرى للكسب الحلال، لم يكن يتحمل إيقاع مدينة كبرى كالدارالبيضاء، لذلك كان يرتاد مدن الشمال، وخاصة المناطق التجارية الحرة كسبتة ومليلية، فيخصص نصف أجرته لتبضع السلع التي تلقى إقبالا من طرف العائلات البسيطة وذات الدخل المحدود.
(يتبع…)

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى