شوف تشوف

الرأي

عيد الهالوين في الشمال الأمريكي

خالص جلبي
أكتب من مونتريال الكندية، والريح الباردة تعزف لحنا شجيا، في بكاء صامت على طبيعة تنحدر إلى الموت؛ فتتعرى الأشجار، وتملأ الأرض غثاء أحوى.
لفت نظري أن البيوت حولي تزينت بشكل خطير قبيح خلاف المعهود. بين قبور فرشت في مداخل البيوت فوق الحشائش والزهور، وعظام مبتورة علقت، منها يسيل الدم مدرارا، وجماجم وهياكل عظمية انتصبت، وملابس سوداء ظهرت، ودماء شرشرت، وأناس يدبون على أربع في شكل عنكبوت مخيف يتزاحم الناس حولها للتصوير التذكاري، كما وقعت عيني على ذلك في منتزه مونترامبلاند القريب من مدينة مونتريال. وبدأ أحفادي أيضا في هذا السياق يستعدون بوجوه مخيفة، تبرز منها أسنان دراكولا، وثياب أشباح علقت أمام مدخل البيت، أما حفيدتي فكانت تجادل أمها أنها تريد الذهاب إلى المدرسة ووجهها ممزق مجروح على شكل مخيف!
حين سألت من حولي شرحوا لي أن هذا هو عيد الهالوين (Halween) حسنا وما هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا تنتج هوليوود أفلام الرعب في هذه المناسبة فتحصد الثروات؟ وتستعد محلات (دولارما Dollarma) لبيع ملابس قراصنة ووجوه مخيفة بأسنان بارزة وتربح الكثير. لم آخذ جوابا واضحا سوى أنه تقليد اعتاد عليه أهل كندا، في اليوم الأخير من أكتوبر من كل عام، وهو يوافق عيد كل القديسين.
فعلا تساءلت عن معنى إدخال مظاهر الرعب الظاهري والأشكال القبيحة إلى الحياة، وكندا تسبح في بحر من الرفاهية! لم أفهم! ربما لأن الأولاد يجدون فيها الغرابة، وتحمل لهم كيسا من الحلويات والسكاكر؛ فهم يقرعون أبواب الجيران ويرددون جملة: خدعة أم الحلوى؟ فينفحهم الجيران السكاكر التي يسيل لها لعاب الأطفال، وهكذا يرجع كل طفل بجراب من حلويات الجيران. وربما كان هذه لإرساء قاعدة روح العيد بين الجيران، فجيراني أنا في كيركلاند نسلم على بعض من بعيد، وبعضا منهم بكلمة هالو لا أكثر!
كندا كما رأيتها (لملمة) بشر من أمم شتى؛ فليست أمة بمعنى الكلمة، وهي لم تعمر سوى من مائة عام ويزيد قليلا، ومن تدفق المهاجرين إلى بلاد البعد والبرد، بألف لسان وعادة ولغة، وما يحافظ على استقرار (شبه) الأمة هذه هي اللب الفرنساوي ـ الأنجلوسكسوني.
ولأن الاستراتيجيين هم من رسموا وخططوا مفاصل هذا البلد بدقة؛ فهو متماسك حتى لو دخله كل عام مئات الآلاف من الناس، لقدرة الامتصاص الثقافية المخيفة عندهم. أحفادي حاليا بالكاد يقرؤون العربية، ولكنهم ينطقونها وباللهجة الشامية. أما اللسان المبين بينهم؛ فهو لسان لويس الرابع عشر وريتشارد قلب الأسد! إنها ثقافة تبتلع في أحشائها أكثر من ابتلاع الحوت نبي الله يونس، فلا يخرج منها وهو مليم. لعل عنصر الإثارة أيضا يلعب دورا لتغير الحياة الرتيبة، كما يقول الفلاسفة، المغامرة هي الحياة ولو فيها الخطر أما الركون فهو الموت بالتأكيد؛ وبهذا القلب للرتابة وبإدخال أشكال الرعب، يحاولون أن يعطوا نكهة للحياة، ولو من عالم الخوف وإله الموت (سامان). باربارا صديقة ابنتي أخبرتها عن ابنها كريس الذي أراد الانتحار! نصحتها أن ترسل ابنها إلى سوريا أو القاهرة أسبوعين حتى يعاني أهوال الحيلة هناك؛ فيرجع خلقا سويا، ويعرف النعيم الذي يسبح فيه، قريبا من حواف الجنة، في ضمانات لا نهاية لها بين الطب والعمل والشيخوخة والتقاعد حتى لحظات الوداع الأخير في مقبرة جميلة يشتهي أهالي القاهرة والصومال والروهينغا أن يسكنوا فيها. يقولون إن الأوربيين الفقراء الذين تدفقوا من القارة العجوز حملوا معهم أيضا خرافاتهم، كما يفعل المسلمون المهاجرون فيعيشوا في شرانقهم، قبل أن يودعها الأبناء والأحفاد، ومنها ما نقله أهل اسكتلندا عن خرافات الغاليين والحضارة السلستية من عام 1556م، أنه مع قدوم الشتاء وما يحمل من معالم الموت الحزين؛ ينزل إله الموت إلى الدنيا في هذه الليلة فيستدعي الأرواح من عالم البرزخ، تلك الشقية التي دخلت أجساد الحيوانات عقوبة لهم، وعلى الناس الاستنفار في هذا اليوم العظيم لإخافة من أدخل الخوف عليهم، ولو من رب الموت المخيف، فيبقون مستيقظين بالمشاعل، ولا يزورون القبور، ولا يأكلون اللحم، ويعتمدون اليقطين أمام البيوت (Pumpkins). وتبدأ اللعبة مع الساحرات والأرواح الشريرة طردا لها، بل وإمعانا في المسرحية اعتماد بعض السرقات الخفيفة، ليقتنع الناس فعلا بانتشار هذه الأرواح السمية في الجو، وهو ما زال يقتنع به العديد من الناس حتى اليوم في اسكتلندا وبلاد الغال.
الأعياد ثقافة وأذكر من نفسي حين رحلت إلى بلاد التيوتون من الجرمان أن عيد الكريسمس (الميلاد) كان غريبا علي والأضحى والفطر قريبين لقلبي، حتى بدأت النسبة في التغير فالعيد عمل اجتماعي، وهو ما علمنا إياه رسول الرحمة (ص) حين رأى احتفال الناس في المدينة؛ فشرع لهم الاحتفال بعد انتهاء شهر الصيام، ثم مع الإعلام الإبراهيمي بعدم التضحية بالانسان بعد اليوم؛ فهو عيد السلام العالمي.
من الأمور العجيبة في التاريخ أنه بعد الاحتفال بعيد الرعب هذه حصل ما هو أرعب منه عام 1755م حين اهتزت لشبونة، وكانت من أجمل عواصم العالم بزلزال في يوم عيد القديسين المقارن لعيد الهالوين؛ ففي الساعة التاسعة وأربعين دقيقة من صباح أول نونبر من عام 1755م احتشد الناس في الكنائس بلشبونة بكامل زينتهم في عيد (كل القديسين) فاهتزت الأرض، وفي ست دقائق تهدمت ثلاثون كنيسة وألف منزل ومات خمسة عشر ألف إنسان. وبدأ الناس يحاولون تفسير ما حدث، فأوضح (مالا جريدا)، وهو أحد اليسوعيين أن الزلزال وما أعقبه من أمواج عاتية مدمرة كان عقابا من الله على الرذيلة، كما أن أهل المغرب هللوا للحدث واعتبروه انتقاما إلهيا من محاكم التفتيش في البرتغال، ولكن الزلزال لم يعف عن المغرب فهدم أعظم مسجد في الرباط. أما (البروتستانت) فقالوا إن هذه الكارثة هي استنكار السماء لجرائم الكاثوليك ضد الإنسانية. ولكن الجواب عن هذا التفسير جاء بعد 18 يوما من زلزال لشبونة، حيث ارتجت الأرض في الطرف الآخر من الأطلنطي في أمريكا في 19 نونبر بأشد وأنكر، فدمر الزلزال ما يزيد عن خمسة عشر ألف بيت في مدينة (بوسطن).
إن العقل الخوارقي مرض عجيب مثل القراد الذي يضرب قبائل النحل فلا يبقي قفيرا ولا عسلا. ومن يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى