النعمان اليعلاوي
احتفل الشعب المغربي يوم (الخميس) بالذكرى الحادية والعشرين لعيد العرش في ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا التي تكتسح العالم، والتي دفعت السلطات المغربية إلى اتخاذ إجراءات استثنائية، كما جعلت من احتفالات عيد العرش لهذه السنة استثنائية أيضا، حين أعلنت وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة تأجيل جميع الأنشطة والاحتفالات التي كان مرتقبا أن تقام بمناسبة عيد العرش، نظرا لتدابير الوقاية من فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19). وقد تقرر تأجيل حفل الاستقبال الذي يترأسه الملك محمد السادس، وحفل أداء القسم للضباط المتخرجين الجدد من مختلف المدارس والمعاهد العسكرية وشبه العسكرية والمدنية وحفل تقديم الولاء.
وتجسد احتفالات عيد العرش التي تصادف الثلاثين من شهر يوليوز من كل عام، مناسبة للوقوف على حصيلة عام من العمل الدؤوب للمؤسسة الملكية في جوانب ترتبط بالداخل والخارج في ما يتعلق باستكمال سياسة الأوراش الكبرى وتعزيز مكانة المغرب بين دول العالم، وتوطيد أركان الدولة المغربية، وفتح آفاق جديدة للمغاربة للتمتع بكافة الحقوق المخولة لهم، ولمحو أسباب التخلف بكل أنواعه وأشكاله، والسير على نهج الرقي والتجديد ومسايرة تطور العصر ونهضته، وزرع بذور الأمل على أرض المغرب الخصبة المعطاءة.
كما يجسد عيد العرش مناسبة للوقوف على المشاريع التنموية الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، وخلال 21 سنة من حكم الملك محمد السادس، حيث يشهد المغرب سلسلة مترابطة من الأوراش التنموية المتعددة في مختلف المجالات، تشكل هندسة اجتماعية تضامنية شاملة الرؤى تتوخى في جوهرها جعل المواطن ضمن الأولوية الكبرى في مسلسل الإصلاح، وهدف أساسي للنهوض بالعنصر البشري، وهي السياسة التي رسخ من خلالها الملك مبادئ التضامن والتكافل والتآزر الاجتماعي بالمجتمع برؤية ملكية تضامنية للمجال الاجتماعي، حيث اعتمدت أحدث النظم والأساليب التدبيرية وذلك من خلال وضع أهداف واضحة تتسم بالانسجام والفعالية والنجاعة والملاءمة، مع القدرة على التأثير وتحديد دقيق للمؤشرات، كل ذلك وفق آلية الحكامة المجالية.
التنمية المستدامة.. سنوات البناء والترسيخ
استطاع المغرب وضع برامج تنموية مستدامة تمكن من الاندماج الفعلي في مشاريع اقتصادية مدرة للدخل وفك الهشاشة والتهميش والإقصاء، عبر إحداث المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي ظلت مستمرة ومواكبة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، عرفت إطلاق المرحلة الثالثة من (2019-2023)، التي تمت بلورتها وفق تصور جديد، معزز بتعبئة استثمارات تقدر بـ18 مليار درهم، تهدف إلى إعادة تركيز برامج المبادرة على النهوض بالرأسمال البشري، والعناية بالأجيال الصاعدة، ودعم الفئات في وضعية هشاشة، وذلك اعتمادا على منهجية مبنية على حكامة خلاقة ومبدعة ترمي إلى تحقيق مزيد من الانسجام والفعالية
وفي هذا السياق، اعتبر عتيق السعيد، الباحث الأكاديمي بجامعة الحسن الثاني، أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تمكنت منذ أزيد من 15 سنة على إحداثها في 2005، برؤية متبصرة واستشرافية لجلالته أن تحظى بإشادة المنتظم الدولي، لما لعبته من أدوار أساسية وفعالة في خلق آلية للتعاون والتضامن المجتمعي، كما ساهمت في تدارك الخصاص المسجل على مستوى البنيات التحتية، والخدمات الاجتماعية الأساسية، ومواكبة الأشخاص في وضعية هشاشة وأيضا تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب بشكل مستدام، بالإضافة إلى تحديد مهام أجهزة الحكامة بشكل ينسجم مع ورش الجهوية المتقدمة، وبالشكل الذي يضمن نجاعة وفعالية هذا الورش في المستوى المجالي الذي تعمل فيه.
واعتبر المتحدث أن مشاريع التنمية البشرية ساهمت في فك العزلة والحد من الفوارق المجالية عبر تقوية المسالك الطرقية والربط بشبكتي الماء الصالح للشرب والكهرباء، وكذا تيسير الولوج للخدمات الصحية للقرب عبر إحداث دور الأمومة والمراكز الصحية واقتناء سيارات للإسعاف بالإضافة إلى تنظيم القوافل الطبية والحملات الصحية، وسلسلة من المشاريع الميدانية في مختلف جهات المملكة مكنت من تقليص العجز المسجل على المستوى السوسيو-اقتصادي، في إطار البرامج المعتمدة، كبرنامج محاربة الفقر بالوسط القروي، الذي استهدف في المرحلة الأولى 2005-2010، 403 جماعات ترابية، مع توسيع قاعدة استهدافه ليشمل 702 جماعة ترابية خلال المرحلة الثانية، وبرنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي في الوسط الحضري، الذي هم في المرحلة الأولى 264 حيا، وقد ارتفع هذا العدد ليبلغ 532 حيا خلال المرحلة الثانية، ثم برنامج محاربة الهشاشة، الذي جاء لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، والمرضى والمسنين، ودعم الإدماج السوسيو اقتصادي، بالإضافة إلى حماية الطفولة والشباب، حيث توسعت قاعدة استهدافه من ثماني فئات في المرحلة الأولى إلى عشر فئات في المرحلة الثانية، وبرنامج أفقي يعنى بالمناطق غير المستهدفة حسب المعايير المعتمدة بالبرامج الأخرى، ثم برنامج التأهيل الترابي للمناطق المعزولة وصعبة الولوج، الذي أعطيت انطلاقته سنة 2011 حيث استهدف 3.300 دوار موزعة على 22 إقليما.
مأسسة مبادئ حقوق الإنسان لعدالة انتقالية بالمغرب
شهد المغرب منذ 21 سنة من حكم الملك محمد السادس محطات حقوقية تاريخية فريدة على مستوى الوطن العربي، طبعت مسارا متميزا من المصالحة مع الماضي ومأسسة مبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، حيث أطلق الملك مبادرة فريدة من نوعها حقق من خلالها المغرب المصالحة الحقوقية متمثلة في تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة للتحقيق في تجاوزات الماضي والقطع مع تلك الممارسات من خلال إنصاف الضحايا وتعويضهم عن كل الانتهاكات الحقوقية.
وعرف المغرب على مدار 21 سنة توقيع وانخراط المملكة في العديد من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان، (على مستوى محاربة الهجرة غير الشرعية؛ تسوية اللجوء؛ على المستوى البيئي؛ على مستوى محاربة التعذيب.. وغيرها ). واعتبر السعيد أن المغرب استطاع أن يكون من أولى دول العالم العربي السباقة إلى المصادقة وتبني العديد من الاتفاقيات الحقوقية، بالإضافة إلى سن وتفعيل العديد من القوانين الجديدة المتعلقة بجميع جوانب الحياة، ويعتبر أهم حدث تعديل مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة شاملة (قانون الأسرة الذي هو أول مبادرة في العالم العربي)، حيث يعد قانونا يعطي للمرأة والطفل مزيدا من الحقوق، كما قامت الدولة بتعديل قانون الجنسية ليعطي الأم الحق في طلب جنسية الأطفال أو الجمع بين الجنسيتين في حالات فصل فيها القانون ذاته.
وأشار الباحث الأكاديمي إلى أن المغرب تمكن من مأسسة حقوق الإنسان من خلال تعديل الدستور في 2011 الذي يعتبر دستور الحريات والحقوق بامتياز، وهو الأمر، حسب السعيد، الذي جعل المغرب أمام دسترة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والانتقال به لمؤسسة دستورية في إطار مجلس وطني لحقوق الإنسان يشمل لجانا جهوية في جميع جهات المملكة، تمكن من خلالها المجلس من أن يصنف في ترتيب المجالس الأفضل جودة على المستوى التدبير الحقوقي. كما استطاعت بلادنا تحقيق نجاح في سبل التعايش بين الأديان السماوية وللثقافات الأخرى، ما جعل المملكة تحظى بتقدير مؤسسات دولية لعل أبرزها مؤسسة الفاتيكان والطوائف الأخرى.
القارة الإفريقية.. التكافل الاقتصادي والاجتماعي
عرفت العلاقات المغربية – الإفريقية متانة كبيرة طوال السنوات الماضية، بفضل سعي الملك محمد السادس المستمر إلى جعل المغرب قاطرة للتنمية القارية، حيث بات المغرب فاعلا أساسيا في تنمية القارة الإفريقية. ووضع الملك بلدان القارة ضمن الأولويات الاستراتيجية والاقتصادية للمملكة، وهو ما مكنها من ترجمة هاته الرؤية التنموية عبر الانفتاح المستمر نحو أزيد من 14 دولة إفريقية ساهم من خلالها بشكل تدريجي وممنهج في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني بالإضافة إلى تعزيز العلاقات وخلق الاستثمارات بالمنطقة، فضلا عن تفعيل برامج للتنمية البشرية التي سعى المغرب من خلالها إلى تأهيل وتكوين عدد كبير من الأطر الإدارية للمؤسسات العمومية بالدول الشقيقة.
وجعل الملك محمد السادس المغرب شريكا دائما في خلق دينامية اقتصادية وفق منظور تضامني مع باقي شعوب القارة السمراء، وهو نفس التوجه الذي أكده الملك في العديد من الخطب الملكية، منها خطاب «أبيدجان» بمناسبة الملتقى الاقتصادي آنذاك، والذي أشار فيه إلى أنه من الأجدر أن تفيد ثروات بلدان القارة شعوبها بالدرجة الأولى، ما يفرض تركيز العلاقات وتطوير الشراكات الاقتصادية خدمة للإنسان الافريقي. وأوضح السعيد أن هذه الرؤية الملكية سلطت الضوء على خلق برامج وسياسات تنموية تقوم على قيم التضامن الاجتماعي بين جميع الدول للنهوض بالتنمية البشرية بإفريقيا عبر دينامية الإصلاحات التي انطلقت تحت قيادته، دفعت في غير مرة مؤسسات دولية لاسيما صندوق النقد الدولي إلى وصف المغرب بأنه ركيزة داعمة للتنمية في المنطقة الإفريقية بما يضمن تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي لكافة الشعوب الإفريقية.
وفي ظل جائحة كورونا، جاء اقتراح الملك إطلاق مبادرة لرؤساء الدول الإفريقية لإرساء إطار عملياتي بهدف مواكبة البلدان الإفريقية في مختلف مراحل تدبيرها لجائحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد- 19»، وهو ما يعتبر تأكيدا واقعيا على أن الدول الإفريقية وجدت المغرب دوما بجانبها، هذه المبادرة تجسد حرص الملك على جعل دول القارة الإفريقية في مختلف الأوضاع والظروف ضمن الأولويات والانشغالات الرئيسية للمغرب، الذي ما فتئ يؤكد بالملموس دوره الفاعل والدينامي في خدمة قضايا القارة.
فمنذ سنة 2000، أبرمت المملكة مع البلدان الإفريقية، حوالي ألف اتفاقية همت مختلف مجالات التعاون، وعلى سبيل المقارنة فما بين سنتي 1956 و1999، تم التوقيع على 515 اتفاقية، في حين أنه منذ سنة 2000 إلى 2017، وصل العدد إلى 949 اتفاقية، أي حوالي الضعف، كل هاته الأرقام تدل على واقعية وفعالية التعاون المغربي- الإفريقي، الذي لم تكن انطلاقته مقترنة بما بعد العودة للاتحاد الإفريقي، بل سبقته بسيل من المبادرات التي تبرز مدى حاجة المغرب لإفريقيا، ومدى حاجة إفريقيا للمغرب.
البنى التحتية.. 21 سنة من الأوراش الكبرى
راكم المغرب واحدا وعشرين سنة من العمل الدؤوب، والبحث الثاقب عن الحلول المستدامة القابلة للتنفيذ، والتوجيهات المشهود بها دوليا لتحصين المملكة من مخاطر وآثار مختلف المتغيرات والأزمات العالمية، أكدت اليوم بالملموس قوة وقدرة المغرب على مجابهة جائحة وباء كورونا المستجد بفضل الرؤية المتبصرة للملك وما صاحبها من سلسلة إجراءات ناجعة حاصرت انتشاره ومكنت من السيطرة عليه، ما جعل من بلادنا تعد مرة أخرى، ضمن الوطن العربي والقاري، «استثناء تدبيريا ووقائيا مانعا للأزمات» بصفة عامة، ونموذجا يحتذى به في تدبير هذه الأزمة الوبائية بصفة خاصة، وبالتالي أكدت جائحة كورونا بشكل ملموس أن بلادنا أضحت درعا حقيقيا للوقاية من الأزمات بالقارة الإفريقية.
استطاع المغرب، بفضل التوجيهات الملكية، أن يظفر بريادة أوائل الدول التي سارعت منذ بداية ظهور جائحة كورونا على الصعيد العالمي بشكل مبكر، إلى التعبئة التشاركية ضد فيروس كورونا، وتطبيق حاسم وسريع لمجموعة من التدابير والإجراءات الصارمة والاستباقية لردع انتشار الوباء، والحد من تداعياته على النسيج المجتمعي، عبر نهج مقاربة ارتكزت على الحكمة والحزم والصرامة، مكنتها من اعتماد «خطة وطنية/حمائية بأبعاد ثلاثية» متنوعة وبعيدة المدى، تعتبر غير مسبوقة وهي الأولى من نوعها على الصعيد القاري، لبنتها الأساس متانة كل من المجال الصحي المبتكر، والمجال الأمني المرتكز على ثقافة أمن القرب للمواطن، والمجال الصناعي المتطور والمتسارع، بغية التأقلم مع متغيرات المرحلة واستشراف بناء مغرب ما بعد كورونا أكثر قوة وتماسكا من ذي قبل.
وشكلت التجربة المغربية لمجابهة وباء كورونا، في سياق قاري ودولي، حالة متميزة وفريدة بجميع المقاييس التدبيرية للأزمة، حيث استطاعت المزج ما بين التدبير الوقائي الضامن لاستمرارية اليقظة والاستباقية تحسبا لأي تغيرات محتملة، وما بين الإجراءات الموازية لها لاستشراف آثارها وتداعياتها المستقبلية، وهو ما جعلها التجربة العربية والقارية الوحيدة التي اعتمدت على مسارين متوازيين، لاسيما تحقيقها بدرجات عالية من الفعالية والنجاعة للأمن المجتمعي من منطلق التركيز المحوري على صيانة وحماية العنصر البشري، وحركية نواة مجاله الاجتماعي، وشكلت هذه الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة التي تعرفها بلادنا جراء الوضع الوبائي، فضاء مفتوحا غير محدود الأفق من قيم التضامن، والتآزر وبناء نموذج مغربي أصيل يرسخ لمبادئ التكافل المجتمعي بمفهومه الواسع كأصدق تعبير وأوضح صورة لحيوية المجتمع وفاعليته وتماسكه، حيث يشهد المغرب سيلا من المبادرات الإنسانية الفريدة في حمولاتها ودلالاتها.