عودة طائر العنقاء
سعيد الباز
هل يمكن تصور مدينة بحجم أكادير بدون قاعة سينمائية؟ الحقيقة أنّ الأمر صحيح منذ أكثر من عقدين، والصحيح أكثر من هذا أنّ القاعات السينمائية موجودة كصروح شاهدة وفي أحيائها وأماكنها المعتادة لكنّها مغلقة يخيّم عليها السكون، وبعضها تتآكل في صمت يعلو جوانبها الخراب.
إنّ الزائر للمدينة المعروفة منذ الماضي البعيد بأنّها مدينة سياحية بامتياز، سيصدم بمنظر القاعتين السينمائيتين الأقدم في المدينة سينما السلام في الحي الصناعي وسينما الصحراء في حي تالبرجت. سينما السلام بمعمارها الفريد رابضة في مكانها مثل تمثال أبي الهول شاخصة إلى الأمام وسط دمار نوافذها وأسقفها، صامدة كما فعلت ذات ليلة من رمضان سنة 1960 حيث لم تواجه الزلزال بمفردها، بل أنقذت حياة روادها الذين لم يخطر ببالهم أنّ ما شاهدوه في فيلم «غودزيلا» من مشاهد خراب للوحش غودزيلا سيكون أكثر رعبا بالخارج. سينما الصحراء، التي أعيد بناؤها بعد الزلزال، بشكلها الخارجي البسيط الذي لا يخفي أناقتها وانتماءها الكلي للساحة المنبسطة أمامها، كما لو كانت بشكل أو آخر عنصرا أساسيا من المكان وامتدادا طبيعيا له. لكن جدرانها الخارجية توحي بأن الخراب بداخلها يتمدد مع مرور الزمن. فيما سينما «ريالطو» مازالت محافظة على شكلها مستسلمة لسباتها طيلة السنة، ولا تصحو إلّا عندما يزف موعد مهرجان عابر.
الأدهى أن قاعات السينما في أكادير وفي الكثير من المدن المغربية لم تكن فقط قاعات عروض سينمائية، بل كانت حاضنة للأندية السينمائية التي كانت تمثل إشعاعا ثقافيا وفنيا مهما. فإذا كانت سينما ريالطو في أكادير، إبان سنوات الثمانينات، قد شهدت نشأة أهم الأندية السينمائية في المدينة، النادي السينمائي 2000 الذي كان تجمعا ثقافيا مهما ساهم في إرساء تقاليد ثقافية، كان لها واسع الأثر على جيل بكامله، فإنّ سينما الصحراء قد عرفت مولد نادي المشهد السينمائي في بداية التسعينات الذي طوّر عمله الثقافي بشكل كبير بتعامله المباشر مع شركات توزيع الأفلام ما رفع من جودة الأشرطة ومتابعة لأهم الإنتاجات عبر السوق السينمائي المغربي. بالإضافة إلى احتفائه بأهم المخرجين السينمائيين المغاربة وتقديم أعمالهم بحضورهم وبمشاركة نقاد وازنين.
إنّ هذا الزخم الثقافي قد أثمر حركة ثقافية مهمة داخل المدينة وجعل من النادي السينمائي مركزا حيويا في الفعل الثقافي، لا على المستوى السينمائي فقط، بل في العديد من المجالات الفنية والثقافية من مسرح وشعر وموسيقى وتشكيل… ومناسبة لإحياء مهرجانات وملتقيات تعتبر رافعة أساسية للعمل الثقافي، وأداة مهمة في تشكيل وعي الأجيال القادمة.
ذلك أنّ من شروط أية تنمية اجتماعية واقتصادية، هو بالأساس ضرورة مواكبتها وربطها الوثيق بالعمل الثقافي، وإسنادها بكل ما يمكّن من تحقيق النجاح والتوفيق. ودون ذلك، ورغم جدية كل المحاولات وإخلاصها، لا تمكننا من قطع الطريق في أمان للوصول إلى أهدافنا. لأننا في أحسن الأحوال لا نقطع سوى نصف الطريق، ونصف الطريق لن يكون أبدا نهايته أو غايته الأساسية، إن لم يكن عودة قسرية إلى نقطة البداية.
إنّ خبر بداية أشغال إعادة تأهيل سينما «الصحراء» بحي تالبرجت لتعود هذه القاعة إلى سالف أمجادها، فكما أنّ الزلزال قد محا أثرها في حي تالبرجت القديم، وأعيد بناؤها في بداية الستينات، وبعد مضي أكثر من عقد من الزمن من الإهمال، يشكل عودة جديدة مثل طائر العنقاء أو طائر الفينيق العجيب الذي كان في مقدوره، كما تقول الأساطير القديمة، أن يتجدد ذاتيا وبصورة تلقائية ومتكررة فيولد من رماد احتراق جسده. إن عودة طائر العنقاء وعودة سينما الصحراء، يمنّي المدينة أيضا بعودة سينما السلام، للحفاظ على معالم المدينة ومرافقها الثقافية التي كان لها دور في بناء هويتها الثقافية المتميّزة وانفتاحها على مستقبل واعد.