عن هشاشة الديمقراطية
محمد أبو الغيط
في الخطاب المقتضب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي المنتخب، بايدن، بالتزامن مع أحداث اقتحام الكونغرس، قال إن ما حدث «تذكير مؤلم بأن الديمقراطية هشة». وهو طرح ليس جديدا، لكنه يحمل دلالة مهمة، حين يأتي من صاحب لقب «قائد العالم الحر»… ولكن بايدن ذكر أن الحفاظ على الديمقراطية يتطلب «قادة يعملون للصالح العام، وليس للسلطة والمصالح الشخصية»، أي أنه اكتفى بتحميل المسؤولية للعوامل الشخصية للنخب، وعلى الرغم من أنه عنصر بالغ الأهمية، لكنه لا يكفي وحده.
من المفيد هنا التذكير بتجارب تاريخية معروفة، فقد كانت ألمانيا وإيطاليا مطلع القرن الماضي دولا ديمقراطية، ترتفع بها نسب التعليم، إلا أن هذا لم يحمها من التحول إلى النازية والفاشية، وذلك باستخدام الآليات الديمقراطية نفسها في حالتها «الصندوقراطية»!
بعد مشاركة هتلر في محاولة انقلابية عسكرية فاشلة على «جمهورية فايمار»، تم سجنه وحظر حزبه، لكنه لاحقا تمكن من رفع حظر الحزب، بعدما أظهر للمسؤولين أنه اقتنع بالعمل عبر القنوات الشرعية. وعام 1924، حصل الحزب على 3 في المائة فقط من الأصوات، لكن الصورة تغيرت بدرامية، مع تأزم الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى. وتصاعد الشعور الشعبي بالإذلال بسبب قيود الاستسلام، وتصاعد الانقسام في المجتمع الألماني بين شيوعيين وقوميين، وعموم الفوضى والإضرابات، وتزايد مخاوف البرجوازية، وعدم فاعلية البرلمان المفتت بين الأحزاب. هكذا قفزت أصوات الحزب النازي إلى 37.4 في المائة في 1932، ليقود هتلر حكومة ائتلافية.
سرعان ما دبر النازيون حادث إحراق مبنى البرلمان، وتم تحميل اللوم للشيوعيين، لتنطلق موجة عنف على يد آلاف من الميليشيا الشبابية للحزب. بعد تسلسل أحداث أمكن لهتلر الحصول على تصويت من أغلبية ثلثي البرلمان على ما يسمى «قانون التمكين»، وينص على تفويض مجلس الوزراء بسلطات تشريعية أربع سنوات. تم ذلك تحت ضغط الرعب المعنوي والمادي على النواب، وكذلك تقديمه إغراءات، مثل التعهد لحزب بحقوق أوسع للكنائس. لم يستغرق الأمر أشهرا حتى صدر قانون بحظر الأحزاب، ثم سلسلة قوانين جمعت كل السلطات بيد هتلر، وتم تأييد ذلك باستفتاء شعبي عام 1934.
في إيطاليا، حصل الحزب الفاشي في انتخابات 1919 على أقل من 2 في المائة من الأصوات، ولكن لظروف اقتصادية وسياسية شبيهة بالأزمة الألمانية، حدث صعود انتخابي سريع لمن يقدم نفسه الرجل القوي الذي سيعيد إيطاليا «عظيمة مرة أخرى»، وإن لم يصل إلى الأغلبية.
عام 1922، أطلق موسوليني مسيرة «الزحف إلى روما»، أتى عشرات آلاف من أنصاره ذوي «القمصان السوداء» إلى العاصمة، يحملون تراثا من أعمال العنف والاغتيال والتفجير. رأت النخب والمؤسسات أنها أضعف من مقاومته، فضلا عن تقاطعات مصالح أو عداوات مشتركة، فتم تكليفه برئاسة الوزراء. وفي 1924، تمكن موسوليني من تمرير قانون انتخابي جديد، يمنح ثلثي المقاعد للقائمة التي تحصل على النسبة الأكبر على ألا تقل عن ربع الأصوات، وهكذا نال حزبه السيطرة التامة على التشريع، وسرعان ما أصدر البرلمان قوانين بحل الأحزاب غير الفاشية، والنقابات، واستعادة عقوبة الإعدام، وغيرها.
استفادت الدول الغربية من تجاربها المؤلمة على الصعيد الإجرائي، حيث تم تسليح الديمقراطية بآليات أكثر حزما، ومؤسسات أكثر استقلالا واستقرارا، وهكذا أمكن سحق محاولات الرئيس ترامب العبثية، على الرغم من استلهامه مشاهد حشد الأنصار لحصار البرلمانيين وإرهابهم.
يحظر الدستور الأمريكي أي تعديلات لا تهدف إلى مزيد من الحريات والحقوق. هذه أمور تم منع إخضاعها للتصويت أو الأغلبية. وفي المقابل، ما زالت جذور الأزمة الحالية بعيدة عن الحل، وجوهرها أسباب اقتصادية واجتماعية، أبرزها تصاعد أزمة اللامساواة العالمية، وغضب فئات عمالية ووسطى فقدت مكتسباتها.
ويظل الأمل بإصلاحات كبيرة قائما، ما دامت الديمقراطية توفر أدواتها، وعبرها يصعد جناح تقدمي متسارع في الحزب الديمقراطي. ولكن هذا التنافس السلمي الحاد لن يتحقق إلا في ديمقراطية مستقرة، تنشأ بعد التوافق على الدولة، وبالتوازي تنشأ المؤسسات الراسخة.
على الرغم من أن كل هذا النقاش يبدو بعيدا عن «خصوصيتنا» العربية، إلا أن من المفيد نشر الوعي به، أملا في أن نذكره في مراحل انتقال ديمقراطي منشود.