عن عشوائيات الفيروس والبوليس السري
مالك التريكي
عندما أعلن أن الأمير تشارلز أصيب بفيروس كورونا قال أحد الظرفاء من عرب بريطانيا: سوف يتصل المسكين بـ111 (الخط الساخن لنظام الصحة العامة) فيتركونه ينتظر على الخط دهرا ثم يقول له أحدهم لا فض فوه: «لا تتصل بنا لمجرد أنك مصاب بالحمى والسعال والأوجاع. إياك أن تتصل، إلا إذا صارت حالتك خطيرة فلم تعد تقوى على التنفس. في الأثناء ما عليك إلا بالماء والبانادول». ولم يقصد أخو العرب الافتراء ولا التجنّي. فهذا فعلا هو مستوى الخدمات الصحية المتوفرة في بريطانيا العظمى هذه الأيام. إلا أنه لم يصعب على الشعب الكريم أن يلاحظ أن الأمير حظي بالفحص على الفور، فيما لا يزال الفحص ممتنعا على عموم الناس! ولهذا تعالت صيحات الاستنكار ضد هذه المفاضلة في المعاملة بين «طبقات» المرضى.
لما فاحت رائحة 111 المحترم قلت في نفسي: قد يكون هذا أنسب وقت لقيام المفكر الفرنسي المعروف ميشال أونفري بزيارة لبريطانيا. فقد أطلق صفة «العالم الثالث» على أوروبا (فرنسا، وإيطاليا وإسبانيا) بسبب ضعف استجابتها لأزمة كورونا واحتياجها لطلب المساعدات الطبية من الصين. أما لو عاين مستوى الخدمات الصحية في بريطانيا، فلربما راجع حساباته. وإذا كان تصور أونفري عن الأزمة يندرج في سياق مقولته الذائعة عن انحدار الغرب، فإن تصور المفكر التسعيني ادغار موران عنها أبسط. وربما يكون أعمق. فقد قال: «شأن الكورونا معنا كشأن الغستابو (البوليس السري النازي). لم نكن، إبان الاحتلال الألماني لفرنسا، نرى الغستابو. كنا نعرف أنها تحوم وتجوس حوالينا. وكنا نتخذ كل الاحتياطات الممكنة لتجنب الوقوع بين مخالبها. ولكن ما كان يحدث في بعض الحالات هو أن تظهر الغستابو فجأة، فيختفي المرء أو تختفي العائلة بأسرها. ولقد كنت شخصيا سعيد الحظ (لأنها لم تعثر علي)».
بهذه الطريقة وصف موران، في محادثة مع الكاتب جاك أتالي، قلة حيلة الإنسان في مواجهة عدو لا صوت له ولا صورة ولكنه منبثّ في كل مكان. عدو خفيّ كتب على الإنسان أن يبارزه في الظلام. ولكنها مبارزة يخوضها الإنسان بلا أدنى سلاح. فماذا يفعل؟ يخاف أن يبقى ساكنا فيطمع فيه العدو. لهذا تراه يخبط من حين لآخر خبطات عجلى في قلب الظلام.
سأل أتالي: هل تأذن لي بالنشر؟ فقال له موران: انشر. روى أتالي المحادثة ثم قال إنه ليس في وسع إلا من نجا من الحرب العالمية الثانية وشارك في المقاومة ضد الاحتلال النازي أن يتوصل إلى مثل هذا التشبيه، ومؤداه أن الحياة طيف واسع من الاحتمالات غير المعلومة ولكن ما يحصل في الواقع هو احتمال واحد، كما أن الحياة مجال يقينيات لا شك فيها ولكنها غير معلومة الأجل. وأول هذه اليقينيات، وآخرها أيضا، هو الموت.
الطريف في التشبيه الذي عقده ادغار موران بين وباء الكورونا والبوليس السري النازي أنه يستدعي تشبيها آخر شهيرا. ذلك أن الطاعون الذي اجتاح مدينة وهران في رواية ألبير كامو إنما كان يرمز في الأساس إلى النازية. وتتعلق رواية «الطاعون»، مثلما جاء في رسالة بعثها كامو إلى رولان بارت، بسرد قصة كفاح حركات المقاومة الأوروبية ضد النازية وتكلل ذلك الكفاح بالنجاح. ولكنه نجاح مؤقت ومهدد لأن الخطر سرعان ما يعاود الظهور في شكل أوبئة طبيعية أو سياسية متجددة. وما كان عند كامو من شك في أن الأوبئة السياسية هي أفتك أنواع الطاعون. ذلك أنه كان شاهدا على تحول القرن العشرين إلى محضنة لإيديولوجيات الاستبداد التي قتّلت عشرات الملايين، كما أوقعت في شراك أوهامها جيشا عرمرما من المثقفين.
لهذا عندما بدأ الفنان المسرحي فرانسيس هوستر يقدم عرضا مقتبسا من رواية كامو في الثمانينيات، فإنه اتخذ الطاعون رمزا لوباء الأيدز، أما في التسعينيات فقد اتخذه رمزا للدكتاتورية السوفييتية. في السنوات الأخيرة كان جنون تنظيم «الدولة» (داعش) هو الطاعون، أما أواخر الشهر الماضي فإن شبح كورونا هو الذي خيم على المسرح في مدينة بوسطن الأمريكية. ذلك أن مسرحية «الطاعون» لا تزال متواصلة العرض منذ عام 1989.