عن المدينة ذات الأسماء الخمسة
في كتابه «شهادة في حق الشهداء»، يورد النقيب العباس المرابط مقطعا من رسالة خطية، توصل بها من طرف المفكر عبد الله العروي في يناير 1956، تقول: «من الواجب أن تكون قبل كل شيء ثمرة كفاحك ونضالك. اليوم وقد نجح الشعب، يجب على كل مواطن أن يعترف بمناقصه وبمزايا كل من كافحوا».
من أسباب النزول، أن المفكر المغربي الكبير المتحدر من مدينة أزمور، أنصف في وقت مبكر رموز مرحلة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، إلى درجة إقراره بأن في هذه الفترة كان هناك من يفكر في المستقبل والدراسة والحياة. علما أن أشواط ومجالات النضال لا تستثني أي فكرة أو إسهام، لأن الأصل في التحرر أنه يبدأ من الفكر الذي يعود إليه.
مناسبة الكلام أني قمت برحلة خاصة إلى رحاب الجديدة، المدينة ذات الأسماء الخمسة: (ريزيبيس، أمزيغن، المهدومة، البريجة والجديدة). ويا لها من زيارة تمضي على طريق الاستمتاع بحقائق سياسية وثقافية واجتماعية، صاغها الكاتب خالد الخضري في كتاب بعنوان: «الجديدة بين القلب والقلم». وكأني بهذا المهووس بعشق شاطئ المدينة ومناراتها وأناسها، ما انفك يسعى إليها، بحثا عن أسرارها وشخوصها ودفئها وقساوتها. وما كان العشق إلا رديفا لقسوة الذات والاستسلام إلى عنفوانها. فبين الإنسان والمكان هناك دائما حنين لا يخفت بريقه، كلما تقدم في التقاط الإشارات التي يهتدي بها القلب والعقل في آن واحد.
في الجمع بين الوقائع التاريخية والعلامات الثقافية والشجون الإنسانية، ما يجعل الكتابة عن مدينة في مثل سحر وثراء البريجة، ضربا من حمى الاكتشاف التي تصيب الإنسان وهو يخطو نحو استبيان العالم، إذ تتلون بسحنات الأشخاص وهندسة العمارات وفضاءات النظر المفتوح الذي لا يحده أفق. فالمدن بأناسها والناس على أهواء مدنهم، وما كان العمران ليتوقف عند شيء أكثر من سلاسة فكرة الإعمار الذي يمكث على الأرض.
بمبرر ما دلف خالد الخضري إلى الجديدة من أبوابها المشرعة على أمواج البحر ورياحه، ليكتشف أن شوارعها وحدائقها ومبانيها ورموزها يتداخل فيها العقل والجنون، أكان في صورة إبداع أو فقدان لحاسة التمييز. لذا فهو مثل مخرج سينمائي يتوخى إحداث الصدمة، يبدأ رحلته مع مجانين المدينة، أولئك الذين يصدحون بحقيقة ما مثل الأطفال.
ماذا عساه يقول ذاك المجنون الذي أطلق عليه وصف «عبقري المدينة» الذي يرى في صحوته ما لا تبصره عيون الآخرين، وإنها لفكرة رائعة أن يلتفت الكاتب إلى مجانين مدينته الذين تتزايد أعدادهم كظاهرة مثيرة. بينما تبدو مارستانات الأمراض العقلية أقل عددا. ومن زمان تنبه مطربون شعبيون إلى أن هناك مدنا تبعث على الجنون وأخرى تصبح ملاذات علاجه.
كنا صغارا في مدينة فاس، لا نجد من الملاهي وفضاءات الترفيه غير التوجه إلى مقبرة «باب الفتوح»، أو النزهة أمام مستشفى «سيدي فريج» الذي يؤوي المجانين، نحاكيهم في حركاتهم عن بعد. ثم كبرنا واكتشفنا أن أعداد المجانين في الشوارع أكبر. فأي معنى للترفيه في غير جوار القبور والمجانين. وتلك واحدة من ثغرات المدن التي تفكر في الإسمنت ولا تضع في الاعتبار عوالم الأطفال ونزعة الترفيه.
يرتدي الجنون في سرد وقائع ثقافية وإبداعات فنية بعدا آخر، ويعرض الكاتب إلى نماذج بمبدعي عاصمة دكالة في التشكيل والمسرح والأدب وأنواع المبادرات الخلاقة. ألم يكن محمد سعيد عفيفي مجنونا، عندما اختار إنتاج عمل مسرحي يكون ممثلوه جميعا من المكفوفين الذين كانوا يتحركون على الخشبة، من دون أن يدري أحد أنهم لا يبصرون. فالبصيرة توجد في القلب بين الضلوع.
ألم يكن الرسام بوشعيب الهبولي مجنونا وقد زج بين اللون والتراب في لوحاته، لأنه عاد إلى الطين يستنطقه، وخلت أعماله من الألوان البراقة التي يراها زائفة لا تعكس صفاء المرآة؟ ألم يكن الرسام عبد الكريم الأزهر مجنونا وقد أسرته طفولته على ضفة وادي أم الربيع الذي يعاند الساحل الأطلسي في جبروت القوة الفاتنة، إذ يحلم الأطفال برسم ذلك الامتداد الذي تمتزج فيه الرؤية بين النهر والبحر.
من التشكيل والمسرح والسينما يصغي الكاتب خالد الخضري إلى رواد «العيطة العبدية»، أمثال الفنان الدعباجي الذي يعتبر عميد «العيطة» في المنطقة، وبوشعيب البيضاوي والمارشال قيبو والشيخة الحمونية التي اشتهرت وزوجها جلول عازف الكمان. وأدركت لماذا يرد اسم جلول في كثير من الأغاني الشعبية، خصوصا تلك التي تؤديها الحاجة الحمداوية. إلا أن إسهامات الباحث محمد أبو حميد في التأسيس لمرجعية «العيطة» تعتبر من أهم الأبحاث في هذا المضمار.
يعود خالد الخضري إلى مهنة المحاماة التي مارسها في الجديدة، وينصب نفسه مدافعا عن قضية واحدة، اسمها البريجة المدينة التي تحصنها الأبراج. يرافع عنها، وهي الحائزة على شهادة الحياة من سهل دكالة، ومن الشهادات الإدارية التي يدلي بها أن الجديدة لها رسم عقاري من محافظة أم الربيع، يثبت خلو تضاريسها من أي شوائب بيئية، ويعرض إلى رموزها في السياسة والثقافة والفن، والفكر والقانون، من قبيل العلامة أبو شعيب الدكالي ومحمد الرافعي، والصوفية عائشة البحرية والمفكر عبد الواحد القادري. ويمضي مستعرضا أسماء وازنة من المحدثين، مثل إدريس الشرايبي وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي والحبيب الدايم ربي، وآخرين ممن تضيق المساحة بذكرهم أفرادا أو جماعات.