عن ازدهار الوشايات في الطوارئ والأزمات
مالك التريكي
من الأوضاع ما يؤدي إلى استثمار أفضل ما في الناس من فضائل، كما أن منها ما يؤدي إلى استخراج أسوأ ما فيهم من مساوئ. إلا أن النوائب الكبرى، مثل الأوبئة والكوارث، تجمع خصائص الوضعين، حيث يبرز فيها الأفضل كما يبرز الأسوأ. صحيح أنه يبدو أن الأفضل هو الأعم، حيث إن الجائحة الحالية أظهرت مدى استعداد الناس في مختلف المجتمعات للتطوع لفعل الخير، مثل قضاء الحاجات من غذاء ودواء للمسنين والمرضى الذين لا يقدرون على الخروج بأنفسهم؛ وتوفير الوجبات اليومية للعائلات المعوزة التي يبلغ عددها في البلدان الأوربية الغنية مئات الآلاف؛ والتبرع بالشقق والمنازل لإيواء الأطباء والممرضين ممن يسكنون بعيدا عن أماكن عملهم في المستشفيات. ولعل أحد أشرق الأمثلة على ما حركته هذه الأزمة من نوازع الخير والبر يتجسم في قصة ذلك الشيخ البريطاني الذي آلى على نفسه، هو الذي لا يكاد يقوى على المشي، أن يذرع فناء حديقته جيئة وذهابا مائة مرة (قبل بلوغه المائة من العمر آخر الشهر)، في إطار مسعاه لجمع تبرعات لفائدة نظام الصحة العمومي. كان الشيخ يأمل جمع ألف جنيه فإذا به ينجح، بما استثاره من بواعث السخاء لدى عموم المواطنين، في جمع خمسة عشر مليون جنيه!
ذلك جانب الإشراق. أما جانب الإظلام فهو أن الأزمة قد أخذت تستنبش ما هو كامن في الأنفس من رذائل، حيث كثر التجسس والتلصص على الجيران، أملا في ضبطهم متلبسين بانتهاك بعض أوامر الحجر (مثل استقبال زوار في البيت، أو تكرار الخروج للتسوق، الخ). فما هي الغاية من ممارسة رذيلة التجسس هذه؟ إنها الرغبة في ممارسة رذيلة أقبح: السعاية والوشاية لدى السلطات. وقد تزايدت هذه الحالات في فرنسا في الأسابيع الماضية، إلى حد أن بلدية الدائرة العشرين في باريس، على سبيل المثال، وجهت رسالة إلى السكان تقول إن مخفر الشرطة المحلي أخبرها أنه لا تزال ترد عليه اتصالات كثيرة تتعلق بالإخطار عن حالات عدم امتثال لأوامر الحجر. ونظرا لأن كثرة الاتصالات تتجاوز قدرة الخط الاستعجالي على الاستيعاب، فإننا «نطلب التوقف عن الاتصال بهذا الخط للتبليغ عن تلك الحالات».
وقد يتبادر إلى الذهن أن المتصلين إنما يؤدون واجبا مدنيا، حفظا للصحة العامة وخدمة للصالح العام. كما قد يبدو أن شكوى الشرطة من كثرة الاتصالات موقف شاذ عجيب، ينم عن استخفاف بيروقراطي بخطورة الوضع الصحي. ولكن إذا عرف السبب زال العجب. فقد تبين للشرطة، بعد الاستجابة لكثير من هذه الاتصالات وإرسال دوريات إلى عين المكان، أن الانتهاكات المزعومة لم تحدث، وأن القصة تتعلق غالبا بتصفية حسابات بين الجيران. بل إن مسؤولا أمنيا في مقاطعة لوار أبلغ «لوموند»، أن من الوشايات ما هو موغل في الهذيان، حيث إن بعضهم اتصل ليبلغ عن عرب أو يهود ثبتت عليهم (في وهمه طبعا) تهمة جلب فيروس كورونا إلى فرنسا!
أما في بريطانيا فقد ازدهرت هواية السعاية والوشاية إلى حد أن أحد المواطنين الصالحين، ممن لا تغفل عيونهم عن حركات الجيران وسكناتهم، قد وشى بوالدي وزير الإسكان روبرت جنريك. وما هو موضوع الوشاية؟ أنهما اقترفا إثم استلام أغذية وأدوية حملها لهما ابنهما الوزير! ومن القصص الكثيرة في هذا الشأن أن ممرضة بريطانية تلقت رسالة تقول: «لقد راقبتك وأنت تقودين سيارتك كل يوم. لم تكوني ترتدين زي الممرضات. واضح إذن أن رحلاتك بالسيارة ليست للضرورة. لقد تم الإبلاغ عنك». هذا رغم أن الممرضة كانت تستخدم سيارتها بقصد التنقل بين البيت والعمل، ورغم أن زي الممرضات لا يرتدى عادة إلا داخل المستشفى.
ولفرنسا في تاريخها المعاصر قصة معروفة مع هذه الرذيلة، فقد استفحل داء الوشايات ضد اليهود، أثناء الاحتلال النازي ومضى الوشاة، الذين يلقبون شعبيا بـ«الغربان»، في نشاطهم المحموم هذا شوطا بعيدا حمل سلطات فيشي على سن قانون ردعي يتوعد بمعاقبة الساعين بالافتراءات والوشايات الكيدية. ولذلك فإن في الأجواء الحالية استحضار كئيب لخساسات زمن الاحتلال البغيض. وهذا ما لم يتحسب له ذلك المتجسس المتحمس، الذي أنشأ صفحة فيسبوكية لتشجيع الوشايات. قالت له إحداهن: «لو أنني عشت في الأربعينيات، لما رغبت في أن تكون من جيراني»، بينما قال له آخر: «لو أن للزمن رجعة لكنت من الوشاة لدى الألمان».
ولكن رغم أن الشائع أن الفرنسيين كانوا أبطال الوشاية في أوربا إبان الاحتلال النازي، فإن المؤرخ لوران جولي يقول إن هذا مجرد انطباع. ذلك أن البلجيكيين والبولنديين لم يدخروا هم أيضا أي جهد في هذا المجال.