عندما يمقت الاحتلال زعماء النقابات.. مقتل فرحات حشاد
في الوقت الذي عرفت فيه أهم بلدان شمال إفريقيا أحداث وقلاقل سياسية كان عنوانها الاستقلال وحرب التحرير ضد بطش الاستعمار، مرورا بأحداث مصر عقب اغتيال حسن البنا واصطفاف الفيلق الأول من الضباط الأحرار، وأحداث ليبيا ومقاومة عمر المختار لإيطاليا وأحداث البيضاء وإئتلاف القوى السياسية مع القصر ضد فرنسا، عاشت تونس بين 1938 و1947 أحداثا خاصة. بحيث سيصطع نجم شاب نقابي وسيم، قادم من قرى ومداشر صفاقص، وسينجز ما لم ينجزه أي نقابي في شمال أفرقيا والعالم العربي آنذاك، وهو الإنجاز المثمل في شل حركة الاستعمار من خلال توحيد النضال النقابي الاقتصادي ضده. هذا الشاب هو فرحات حشاد الذي تمت تصفيته وهو لم يتجاوز بعد السن 38 سنة.
أحس هذا الزعيم النقابي بأن تهديدات خطيرة وجدية لتصفيته تحوم من حوله. وبحسه السياسي المتقد وحدسه كأب طلب من زوجته آمنه أم الخير (كانت في الثانية والعشرين من عمرها) أن تسافر لصفاقص هي وأبناه نور الدين 8 سنوات وناصور 5 سنوات وجميلة 3 سنوات. وبعد ذلك بدأ كل مرة يبيت عند صديق من أصدقائه النقابيين.
في صباح يوم 5 ديسمبر عام 1952 م وهو يخرج من بيت أحد الزعماء النقابيين بضاحية تونس العاصمة، تبعته سيارة في الطريق بها على الأقل أربع أشخاص (حسب أحد الشهود وهو تقني هواتف كان يصلح أحد الأعمدة الخشبية في عين المكان) وأطلقوا عليه النار وفرت السيارة هاربة، ولكن حشاد أصيب فقط في ذراعه وكتفه وتمكن من الخروج من السيارة. بعدها بثوان ظهرت سيارة أخرى وخرج منها شخصان بمعاطف سوداء حملوه إلى داخل السيارة وأطلقوا النار عليه مباشرة في رأسه ثم ألقوا به علي جانب الطريق بعد التأكد من موته.
وعندما أعلن نبأ اغتياله علي الراديو في الظهيرة اجتاحت المظاهرات مدن العالم من الدار البيضاء إلى القاهرة ودمشق وبيروت وكراتشي وجاكارتا، وامتدت أيضاً إلى مدن أوروبية مثل ميلانو وبروكسل وستوكهولم وتحولت وفي الدارالبيضاء تحولت المظاهرات التي نظمها الاتحاد العام للشغل (حيث كان المحجوب بن الصديق أحد أقرب أصدقاء فرحات حشاد) إلى أعمال عنف راح ضحيتها ما يقرب من خمسين شخصاً.
فرحات حشاد من أكبر الزعماء النقابيين الأفارقة والعرب، مزداد بقرية قرقنة، وهي قرية ساحلية بجانب الصفاقص يوم 2 فبراير 1914 لمع نجمه بعد تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946 وهو الاتحاد الذي نجح حشاد في جعله القوة النقابية الأولى والوحيدة في تونس، مما أكسبه شعبية عارمة بين الطبقة العاملة وكل مكونات المجتمع التونسي بل والعربي والدولي بفضل مجهوداته ونشاطه النقابي في دعم أواصر التعاون النقابي بين-الدولي. ولأنه مناضل حقوقي من طراز رفيع كان من الطبيعي أن يجاهد نقابيا وسياسيا بل وعسكريا أيضا من اجل استقلال بلاده عن الاستعمار الفرنسي. وكان فرحات حشاد أول سكرتير عام للاتحاد العام للعمال التونسي منذ إنشائه عام 1949 حتي اغتياله 5 ديسمبر عام 1952.
يعتبر فرحات حشاد من الزعماء القلائل الذين التحقوا بالنضال المبكر والعمل النقابي التونسي. ففي سنة 1936 أسهم حشاد في المجال النقابي داخل الكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية، وناضل بنشاط وسط هذه النقابة. وكان من ثمرات هذا المسار تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946. ولكي تكتسب هذه المنظمة شرعية نقابية ووطنية ومجتمعية (لأن العمل النقابي كان فرنسيا في ذلك الوقت)، كان فرحات حشاد ذكيا عندما نادى في المؤتمر التأسيسي مجموعة من الشيوخ الزيتونيين لحضور التأسيس ومن أبرزهم العالم محمد الفاضل بن عاشور الذي أسندت إليه الرئاسة الشرفية للاتحاد.
عند تأسيس المنظمة ظهر اسم فرحات حشاد وطنياً ودولياً كزعيم وطني بارز ومناضل سياسي محنك، واكتسب هذه الشهرة عندما زار بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية. أربك نشاطه القوي المستعمر الذي لم يوفق في الوصول إليه وزجه في السجن أو النفي كما فعلت فرنسا مع زملائه من مثل الحبيب بورقيبة وغيره، خاصة بعد أن ولى باهتماماته نحو المقاومة المسلحة وتنظيم سلسلة من الإضرابات العامة التي شلت حركة الاقتصاد الاستعماري الفرنسي بتونس، بل وأصبح رأسه مطلوبا عندما أصبح سنة 1951 هو القائد الفعلي والزعيم السياسي للحركة الوطنية التونسية ونقابة العمال ورمزاً من رموزها.
يؤكد جل مؤرخي حركة التحرر التونسي من الاستعمار الفرنسي بأن زمن اغتيال فرحات حشاد جاء وزامن انفجار حركة مقاومة مشهودة من التونسيين إزاء فرنسا، وهو التصادم الذي عرف أوجه بنفي كبار الزعماء التونسيين وسجنهم.
حيث شهدت بداية 1952 فشل جل المحادثات المباشرة حول الاستقلال بين تونس وفرنسا وتم اعتقال الحبيب بورقيبة وكل الزعماء الوطنيين. وهي الفترة التي بدأ فيها الزعيم التونسي صالح بن يوسف التوجه إلى الأمم المتحدة للتحسيس بقضية تونس الوطنية، بعد أن حظر الاستعمار التجوال واصدر قوانين الطوارئ ومنع كل الأنشطة السياسية. شلل العمل والنضال السياسي فتح المجال للاتحاد العام للعمال بأن يأخذ مشعل النضال والكفاح ضد الاستعمار. فبدأ فرحات حشاد في تنظيم جماعات من الناشطين في الاتحاد العام للعمال للقيام بهجمات مسلحة ضد رموز السلطات الفرنسية إضافة إلى تنظيم إضرابات وحشود رغم اعتقال ما يزيد علي 20 ألف تونسي. ولم يكتف حشاد بالعمل النقابي والكفاح المسلح بل كان سباقا إلى إطلاق عمل جد خاص وهي “الديبلوماسية النقابية”، حيث سافر إلى بروكسل وواشنطن ونيويورك لتوصيل صوت تونس أثناء مناقشة موضوع استقلال تونس والمغرب في مجلس الأمن سنة 1951. ولقوة علاقاته الوطيدة مع كبار النقابيين الأمريكيين (حيث كان لوبي النقابات قويا آنذاك بأمريكا) فقد أحست فرنسا بخطورة فرحات حشاد على مصالحها الاقتصادية الاستعمارية ليس فقط في تونس وإنما في باقي مستعمراتها بإفريقيا.
وبالنظر لشعبيته الكبيرة ونصرته من قبل العديد من السياسيين الدوليين، عجز الفرنسيون عن سجن فرحات حشاد جراء هذه الحصانة اكتسبها في الأوساط النقابية العمالية وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي الوضعية المنطقية التي أفضت إلى تفكير سلطات الاستعمار باغتياله.
أدى نشاطه الزائد ضد الاستعمار الفرنسي إلى أن بدأت الحكومة الفرنسية تقلق وتحاول التخلص منه بعد أن أصبح يهدد مصالحها الاستعمارية في تونس وشمال إفريقيا عامة وبدأ التفكير في عدة خطط لإزاحته من الطريق منها وضعه في السجن أو تحديد إقامته في منزله أو حتى قتله.
وهو نفس الوقت الذي بدأت فيه التهديدات تتجه نحوه عن طريق منشورات موقعة من منظمة اليد الحمراء (منظمة سرية للتجسس والتجسس المضاد والتصفية)، التي كانت تعمل مع الاستعمار الفرنسي والمخابرات الألمانية في هذا الوقت، وازدادت عمليات التخريب والتهديد ضد منزله وأسرته وارتفعت الأصوات المطالبة برأسه. ففي يوم 28 نوفمبر – قبل مقتله بأسبوع واحد – كتبت صحيفة (باريس) التي تصدر في شمال إفريقيا أن “حشاد وبورقيبة هما رأسا البلاء فلماذا تترك الرأس ما دام في القضاء عليهما مصلحة للحياة والكرامة والشرف الفرنسي. فإذا كان الرجل يهدد بقتلك اقتله أنت قبل أن يقتلك” (جريدة باريس عدد 28/1952).
بعد مقتل فرحات حشاد تم نقل جثمانه على مركب صغير إلى جزيرة قرنقة مسقط رأسه، حيث قامت أسرته بدفنه هناك ولكن بعد ذلك، تم إنشاء مدفن رسمي آخر له في تونس ونقل رفاته إليه عام 1955. ما زال التونسيون يحتفلون سنوياً بذكرى اغتياله، كما أنشئت باسمه جامعة في مدينة سوسة وبها أكبر كلية للطب في تونس باسم كلية فرحات حشاد. وفي عام 2005 تم بناء مدرسة في مدينة جنين في فلسطين المحتلة على نفقة نقابة العمال التونسية باسم الشهيد فرحات حشاد الثانوية. وفي الدارالبيضاء لا يزال رفاق حشاد يتذكرونه وهم يمرون بأحد أكبر الشوارع باسمه.