عندما يكشف الأدب عن وجه العنصرية البشع
إعداد وتقديم: سعيد الباز
الأحداث الأخيرة التي أعادت بقوة موضوع الميز العنصري والإشكالات الأخلاقية والفكرية المرتبطة به في الجانب الحقوقي والتاريخي والإنساني..، وجهت من جديد تلك الأسئلة العويصة التي ما زالت تطرح نفسها على الحضارة الغربية في مجملها، خاصة في العودة إلى الحقبة الاستعمارية المظلمة، وما رافقها من استعباد واضطهاد عرقي وعنصري… الأدب الإنساني كان سباقا إلى الكشف عن ظاهرة العنصرية وإبراز جوانبها المنافية لكل القيم الإنسانية من خلال العديد من الأعمال الأدبية، كان لها الأثر الكبير في إدانتها، وبث الوعي بضرورة مناهضة كل أشكال الميز في مختلف مستوياته وأشكاله.
هارييت ستاو.. «كوخ العم توم»
الفتاة الأمريكية هارييت ستاو Harriet Stowe (1811-1896) لم تكن تدري، وهي تكتب روايتها «كوخ العم توم»، أن روايتها ستنال نجاحا غير مسبوق، حتى قيل عنها الكتاب الثاني الأكثر قراءة في أمريكا بعد الإنجيل. الأكثر إثارة أن تكون روايتها، وبعد عقد من الزمن، إحدى المقدمات الضرورية للحرب الأهلية الأمريكية، بين الجنوب المدافع عن تجارة العبيد والشمال الذي يدعو إلى إلغاء العبودية. رواية «كوخ العم توم» كانت خلال الحرب وقبلها في صلب النقاش العام الدائر في أمريكا، ثم صارت بعدها عملا أدبيا ذا حمولة رمزية لكل أنصار الحرية ومناهضة العبودية والعنصرية في العالم.
في أصيل يوم بارد من أيام شباط، كان رجلان يحتسيان الشراب في غرفة حسنة الأثاث بمدينة (ب) من أعمال كانتاكي. لم يكن ثمة أحد من الخدم، وكان يبدو وكأن الرجلين يدرسان موضوعا يستأثر باهتمامهما كله. كان أحد الرجلين قصيرا، بدينا، ذا ملامح غليظة، وروح من الادعاء الأجوف التي تطبع الرجل الوضيع حين يسعى لأن يشق طريقه نحو دنيا الرفاه والثروة. كان يلبس ثيابا متراكبة، تتعدد فيها الألوان وتتضارب، ويداه الغليظتان الخشنتان مثقلتان بالخواتم، وكانت لغته تتحدى قواعد النحو ولا تعرف قيدا ولا ضابطا. أما رفيقه، السيد شيلبي، فكان مظهره يؤذن بأنه عريق في النبل والوجاهة. وكان الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث في أمر مهم. «وهكذا ينبغي أن تُسوى المسألة… » قال مستر شيلبي. «ولكني لا أستطيع أن أقرك على هذا العرض… »
«تأكد يا هيلي، أن توم عبدٌ يندر مثيله. وهو لاشك يستحق هذا المبلغ. إنه قوي مخلص وهو يدير مزرعتي كلها كالساعة. «قال هيلي: تقصد أنه مخلص على طريقة الزنوج…»
«لا، أنا أعني أن توم ولد طيب حساس وتقي. لقد تعلم الدين منذ أربع سنوات فعمر قلبه بالإيمان. ومنذ ذلك الحين وأنا أأتمنه على كل شيء، على مالي وبيتي وأفراسي… في الخريف الماضي أرسلته منفردا إلى سينسيناتي، في عمل من أعمالي، وكلفته أن يحمل إلي خمسمائة دولار، فلم يخيب ظني فيه. وقد قال له بعضهم هناك: توم، لماذا لا تهرب إلى كندا؟ فأجاب: لقد وضع سيدي ثقته في وقد وعدته بأن أعود، وليس من خلقي أن أغدر أو أخلف بوعد. وعلى أية حال فأنا آسف لاضطراري إلى التخلي عن توم. وأحسب أنك لن ترد رجائي في أن تعتبره سدادا مني لكامل دينك… ».
ولكن النخاس اعتذر، في تلطف، عن تلبية رغبة السيد شيلبي وقال: «ولكن أليس عندك صبي تستطيع الاستغناء عنه، أو صبية تستطيع أن تستغني عنها، مع توم؟»
«لا، لا! أقول لك الحق. إن الضرورة القاهرة هي التي تحملني على البيع ليس غير. أنا لا أحب أن أفارق أيا من هؤلاء الذين أملكهم».
… والواقع أن نظام الرقيق في ولاية كانتاكي كان في الأعم الأغلب أخف وطأة على الزنوج منه في سائر الولايات الأمريكية. ومن يزور بعض المزارع في تلك الولاية ويرى التسامح الذي يبديه بعض رجالها ونسائها البيض ليخيل إليه أن الزنوج في خير. ولكن شبحا رهيبا كان يخيم على هذا المشهد، هو شبح القانون. فما دام القانون يعتبر جميع تلك الكائنات البشرية، بقلوبها النابضة وأحاسيسها الحية ملكا للسيد الأبيض، يتصرف فيها كما يتصرف بما يملك من أشياء، وما دام موت المالك الرؤوف أو افتقاره أو طيشه كثيرا ما تنقل الزنوج من حال من التسامح والحماية الرفيقة إلى حال من الكدح والشقاء، فلن يكون في أحسن أنظمة الرقيق وأكثرها تلطفا ورحمة ذرةٌ من جمال تبرر وجوده، أو ذرة من فائدة تشفع له. وكان السيد شيلبي رجلا نبيلا، كبير القلب، ميالا إلى الإحسان إلى كل من يحيط به. ولم يكن يضن على زنوجه بأي ما شيء يساعد على تمتعهم بالرفاه الجسدي. بيد أن إسرافه الطائش أغرقه في الديون. فإذا بدائنه النخاس، هيلي، يطالبه بالمال، وعلى هذا كان يدور الحديث الذي افتتحنا به قصتنا بين الرجلين.
ص 9 ص 10 ص 12
فرانز فانون.. «معذبو الأرض»
الطبيب النفسي من المارتنيك فرانز فانون Franz Fanon (1925-1961) الذي عمل طبيبا بأحد المستشفيات في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، كان من أشد المعارضين للاستعمار، وخاصة الفرنسي، ما دفعه إلى الالتحاق بالثورة الجزائرية. لم يكتب فرانز فانون سوى كتابين «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» و«معذبو الأرض» هذا الأخير صار أكبر ملهم لحركات التحرر الوطنية في العالم وفي إفريقيا خاصة. في كتابه يقوم فرانز فانون بتشريح للأنظمة الاستعمارية، والذي يضمر بداخله أسوأ أنواع العبودية ليس في إفريقيا وحدها، وإن كان في الأصل المنطلق الأساسي في ما ستشهده أمريكا الشمالية والجنوبية من عملية اتجار مقيت بالبشر في أسواق النخاسة ومزارع المستوطنين البيض. يكشف بدم بارد كيف أنه نظام مبني أساسا على العنف، وكما يقول ليس في الاستعمار سوى الدركي والجندي وليس هناك لا رجل دين أو سياسي، وبمقتضى ذلك لا تمكن مواجهته إلا بالقوة.
إن عملية نقد الاستعمار وإبراز وجهه البشع وغير الإنساني لم تمنع فرانز فانون من نقد المُسْتَعمرين وفضح قادتهم وزعمائهم وبنية التخلف في التفكير والممارسة السياسية تجعلهم ضحايا الاستعمار قبل الاستقلال وبعده. الكتاب في الأصل موجه إلى فرنسا الاستعمارية وقد قام الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بوضع مقدمة للكتاب، وعلى الرغم من مرور عقود على الفترة الاستعمارية، فما زال كتاب «معذبو الأرض» يحمل في ثناياه الكثير من الدروس للمجتمعات التي خرجت من الاستعمار وما زالت تعاني تبعاته.
توفي فرانز فانون مبكرا عن عمر لم يتجاوز 36 سنة إثر إصابته بمرض سرطان الدم ودفن بالجزائر..، لكن الكتاب سيبقى مهما من خلال تحليلاته النفسية والسلوكية لظاهرة الاستعمار من جهة وأساليبه في استعباد البشر وإخضاعهم كلية للسيطرة.
إن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقة جماعة بجماعة. والمستعمِر يقاوم كثرة العدد بكثرة القوة. إن المستعمِر إنسان مصاب بداء الميل إلى العرض. واهتمامه بسلامته يحمله على أن يذكر المستعمَر جهارا بأنه هو السيد. (أنا هنا السيد). فيثير في المستعمَر غضبا يكبحه بهذا حين يهم أن يخرج، إن المستعمَر موثق بالأغلال القوية التي أحكم الاستعمار إطباق حلقاتها عليه. ولكننا رأينا المستعمِر لا يحصل إلا على تجميد ظاهري، أما في الداخل فيظل الرجل في حالة غليان. وهذا التوتر العضلي ينطلق من حين إلى حين انفجارات دامية: معارك قبلية ونزاعات بين أفراد. فعلى مستوى الأفراد نشهد أمورا تخالف المنطق حقا. فبينما نرى المستعمِر أو الشرطي يستطيعان من أول النهار إلى آخره أن يضربا المستعمَر وأن يهيناه وأن يركعاه، نجد المستعمَر يشهر سكينه عند أيسر نظرة عدائية أو هجومية يلقيها عليه مستعمَر آخر، لأن آخر ما بقي للمستعمَر هو أن يدافع عن شخصيته تجاه مواطنه. ولما كانت الصراعات القبلية استمرارا لأحقاد قديمة مغروسة في الذاكرة، فإن المستعمَر حين يخوض معارك الثأر بكل ما أوتي من قوة، إنما يحاول أن يقنع نفسه بأن الاستعمار لا وجود له، وأن جميع الأمور تجري كما كانت تجري في الماضي، وأن التاريخ يستمر… ومن الواضح كل الوضوح أن هذا السلوك هو، على مستوى الجماعات، نوع من ذلك (السلوك الهروبي) المعروف، كان هذا الانغماس في دم الأخوة يمكن أن يكون يعمي عن رؤية العدو الحقيقي، وأن يؤجل خوض المعركة التي لابد من خوضها، ألا وهي المعركة المسلحة مع الاستعمار. إن المعارك التي تقوم بين القبائل إنما هي تدمير للذات، وهذا التدمير هو إحدى الطرق التي بها يتحرر المستعمَر من توتر عضلاته. وهذا السلوك كله إنما هو انتحار تجاه الخطر، انتحار يسمح للمستعمِر الذي تقوى بذلك حياته وتشتد سيطرته، أن يقول بهذه المناسبة نفسها أن هؤلاء الناس ليسوا عقلاء. وهناك وسيلة أخرى يعمد إليها المستعمَر، وهي الدين. فبواسطة الإيمان بالقدر يجرد المضطهِد من المسؤولية، باعتبار أن الله علة كل شيء، فهو الذي أراد هذه الآلام وهذا البؤس، وهو الذي رسم هذا المصير، فعلى الفرد أن يقبل هذا الفناء الذي أراده الله. وهكذا يخضع للمستعمِر مذعنا للقضاء والقدر، ويصل من ذلك بنوع من تحقيق التوازن الداخلي، إلى هدوء كهدوء الصخر. وتجري الحياة في أثناء ذلك. ومن الخرافات الراعبة، الكثيرة في المجتمعات المتخلفة، إنما يمضي المستعمَر يستمد أسبابا تمنع روح الهجوم عنده من الانطلاق، فهو يتصور وجود جن شريرة تتربص به كلما حاول أن يتحرك، ويتصور وجود بشر أسود، وبشر أفاعٍ، وكلابٍ لها ستة أرجل، وغيلان، وعدد لا نهاية له من الكائنات الصغيرة أو العملاقة، تبني من حوله محرمات وسدودا وموانع أرهب من العالم الاستعماري نفسه. إن هذا الجو الخرافي السحري الذي يخيف الفرد يتصرف تصرف واقع لا سبيل إلى الشك فيه، وهو إذ يبث الرعب في الفرد، يدخل هذا الفرد في تقاليد بلده أو قبيلته، يدخله في تاريخهما، وهو في الوقت نفسه يطمئنه، يعطيه حقوقا ويمنحه هوية. إن عالم الأسرار في البلدان المتخلفة هو عالم جماعي لا شأن له بغير السحر. إنه لا يقيدني بتلك الأغلال الوثيقة، ويجعلني أكرر أعمالا بعينها على ثبات جامد، إنما يؤكد لي استمرار عالم هو عالمي هو عالمنا. صدقوني إذا قلت لكم إن أشباح الغيلان مفزعة أكثر من المستعمرين. ولا تكون مشكلة المستعمَر عندئذ أن يصفي أمره مع العالم الاستعماري المصفح بالحديد، وإنما تكون مشكلته أن يفكر ثلاث مرات قبل أن يبول أو أن يبصق أو يخرج في الليل. إن القوى الغيبية السحرية تبدو له قوى جبارة، وبذلك تصغر قوى المستعمِر في نظره كثيرا، وتخرج من نطاق اهتمامه، ولا يكون عليه بعد ذلك أن يكافحها، لأن أعداءه الخرافيين هم الذين يرهبونه قبل كل شيء. وهكذا تنحل الأمور كلها في معارك دائمة على مستوى الوهم والخيال.
تشينوا أتشيبي.. يقظة الضمير الإفريقي
يعتبر الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي Chinua Achebe (1930-2013) رائدا من رواد الرواية الإفريقية انطلاقا من روايته الأولى «أشياء تتداعى» سنة 1958 التي حققت له شهرة واسعة إفريقيا وعالميا حيث ترجمت إلى أكثر من 50 لغة. ولد تشينوا أتشيبي في شرق نيجيريا من والدين مبشرين بالمسيحية، درس اللغة الإنجليزية والتاريخ في جامعة «إبادان» التي أسسها الإنجليز في الفترة الأخيرة من استعمارهم لنيجيريا. لكنه كأي نيجيري عاش حقبة الاستعمار عانى من الصراع بين الموروث الوثني والتقاليد الإفريقية الراسخة في وجدانه ومسيحية أبويه والندوب التي خلفها الاستعمار الإنجليزي عبر سياسته القمعية القائمة على احتقار الشخصية الإفريقية ودمغها بكل ما هو متخلف وبدائي. رواية «أشياء تتداعى» التي استمد تشينوا أتشيبي عنوانها من قصيدة معروفة للشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس يستهلها بهذا الجملة الدالة: «إلى أن تجد الأسُود من يكتب تاريخها، تاريخ الصيد سيمجد دائما الصياد» التي تختصر عالمه الروائي، فالبطل الرئيسي للرواية «أُوكونكوو» الذي يقدس آلهته وقبيلته يتعرض للنفي بسبب ارتكابه لجريمة قتل بالخطأ، يعود من جديد بعد مدة طويلة ليجد مبشري الاستعمار الإنجليزي قد بنوا كنيسة واستمالوا العديد من أبناء القبيلة إلى الدين الجديد، وحدوث شرخ في جسم القبيلة ما جعله رفقة غيورين على إرث الأسلاف يعمد إلى إحراق الكنيسة بعد إخلائها. يعتقل «أوكونكوو» ويضطر إلى دفع فدية لإطلاق سراحه، وأثناء اجتماعه مع رفاقه هاجمهم جنود الاحتلال لفض اجتماعهم غير القانوني فيقتل أحد الجنود بسيفه. ودون أن تناصره قبيلته التي خذلته تأتي قوات الاحتلال لاعتقاله لكنه سيشنق نفسه بحبل ممدود إلى شجرة دون أن يجرؤ أحد من قبيلته على دفنه. تنتهي الرواية عند قدوم الحاكم الإقليمي لتفقد جثة «أوكونكوو» فيقول رفيقه القديم للحاكم: «كان هذا الرجل من أعظم الرجال… دفعتموه لكي يقتل نفسه، والآن سيدفن مثل أي كلب».
هذه الرواية التي ألهمت الكثيرين من المناضلين الأفارقة في البحث عن الجذور وبناء كرامة الإنسان الإفريقي في وجه ما تعرضت له الشخصية الإفريقية من إذلال وطمس لهويته من قبل الاستعمار الأوروبي، فعن هذه الرواية وصاحبها كتب المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا وهو في السجن: «كان هناك كاتب نيجيري اسمه تشينوا أتشيبي تحطمت برفقته جدران السجن».
آلان بايتون: «ابك، يا بلدي الحبيب»
كان لرواية «ابك، يا بلدي الحبيب» التي صدرت سنة 1948 للروائي الجنوب إفريقي والمناضل ضد التفرقة العنصرية في بلده، آلان بايتون Alan Paton (1903-1994)، الصدى العالمي الكبير حيث سلطت الضوء لأول مرة على ما يعانيه السود في جنوب إفريقيا من تمييز عنصري، وكانت في الوقت نفسه بداية أولى لرواية نضالية تكشف عن أقسى معاناة الإنسان في ظل الأنظمة العنصرية والاستبدادية، فتحولت إلى أيقونة روائية شكلت إلهاما للكثير من الروائيين في العالم الثالث. يتطرق آلان بايتون في روايته إلى قصة قس يدعى ستيفن كومالو يقيم بعيدا في إحدى مناطق قبيلة الزولو يتوصل برسالة من قس زميل له من مدينة جوهانسبورغ يطلب منه الحضور عاجلا لأن أخته مريضة. تبدأ رحلة بحث القس في المدينة الكبيرة عن أخته وأفراد آخرين من العائلة، فيكتشف حقيقة ما آل إليه غالبية المهاجرين، ومن بينهم أخته المريضة التي هجرها زوجها وتمتهن الدعارة وابنه الذي انغمس في عالم الإجرام ويواجه الإعدام بتهمة القتل. رحلة البحث عن الجذور تنتهي بإدانة نظام الأبارتايد القائم على تجريد الإنسان الإفريقي من مقوماته الشخصية الأساسية، فيغدو كائنا عديم القيم والأخلاق ومنسلخا تماما عن جذوره. لم تكتف الرواية بالنجاح على المستوى العالمي لكنها انتقلت إلى عالم الشاشة الكبيرة، حيث أضافت زخما واسعا لقضية الميز العنصري في الكثير من بلدان العالم.
إيمي سيزير.. «خطاب حول الاستعمار»
المارتينيكي إيمي سيزير Aimé Césaire (1913-2008) شاعر ومناضل كبير أسس رفقة الشاعر السينغالي ليوبولد سيدار سنغور مفهوم الزنوجة باعتباره تيارا وحركة فنية وأدبية تسعى إلى تكريس أسس الهوية الإفريقية ومناهضة العنصرية بكل أشكالها الواضحة والملتبسة في الفكر الأوروبي. عرف إيمي سيزير بشراسته في الدفاع عن المضطهدين في إفريقيا والعالم، خاصة في خطابه الشهير «خطاب حول الاستعمار».
خطاب حول الاستعمار
إن حضارة غير قادرة على حل المشاكل التي تسببها حركتها هي حضارة منحطة.
إن حضارة تختار أن تغض الطرف عن مشاكلها العويصة هي حضارة مريضة.
إن حضارة تخادع عبر مبادئها هي حضارة تحتضر.
والحقيقة أن الحضارة المعروفة باسم «الحضارة الغربية» الأوروبية، التي شكلتها قرون من الحكم البورجوازي، غير قادرة على حل المشكلتين الرئيسيتين اللتين أنتجهما وجودها: مشكلة البروليتاريا والمشكلة الاستعمارية. إذا أحلناها إلى محكمة «العقل» أو محكمة «الضمير»، فإن أوروبا هذه عاجزة عن تبريرها، وأنها بقدر لجوئها أكثر فأكثر، إلى رياء أكثر غرابة، فإنها تملك أقل فرص للخداع.
أوروبا لا يمكن الدفاع عن نفسها.
ويبدو أن هذا الاستنتاج الذي يهمس به الاستراتيجيون الأمريكيون بصوت منخفض. هذا في حد ذاته لا يهم.
الشيء الخطير هو أن «أوروبا» أخلاقيا وروحيا، لا يمكن الدفاع عنها.
واليوم يتضح أنه ليس فقط الجماهير الأوروبية هي التي تجرم، ولكن الاتهام موجه على الصعيد العالمي من قبل عشرات وعشرات الملايين من البشر الذين ينتصبون من أعماق العبودية قضاةً.
يمكنك أن تقتل في الهند الصينية، وتعذب في مدغشقر، وتسجن في إفريقيا السوداء، تستعبد في جزر الهند الغربية. الشعوب المستعمَرة تعرف الآن أن لديها ميزة على المستعمرين. وهي تعرف أن «أسيادها» المؤقتين يكذبون.
مما يعني أن أسيادها ضعفاء.
وبما أنه طلب مني اليوم أن أتكلم عن الاستعمار والحضارة، لنذهب مباشرة إلى الكذبة الرئيسية التي تتوالد معها جميع الكذبات الأخرى.
الاستعمار والحضارة؟
واللعنة الأكثر شيوعا في هذه المسألة هي أن تكون المخدوع حسن النية لنفاق جماعي بارع في طرح المشاكل المزيفة لإضفاء شرعية أفضل على الحلول البغيضة التي تقترحها. وهذا يعني أن الشيء الأساسي هنا هو أن نرى بوضوح، أن نفكر بوضوح. للاستماع بانتباه شديد، للإجابة بوضوح عن السؤال الأولي البريء: ما هو مبدأ الاستعمار؟ للوصول إلى ما ليس هو. ليست بشيرا ولا مؤسسة خيرية، ولا إرادة لتقليص حدود الجهل والمرض والاستبداد، أو توسيع رقعة وجود الله أو تمديد سلطة القانون، إلى الاعتراف مرة واحدة وإلى الأبد دون خوف من العواقب أن الحركة الحاسمة هنا هي حركة المغامر والقرصان، وعطار الجملة والمراكبي، والباحث عن الذهب والتاجر، والشهوة والقوة…
ت. جمال الجلاصي
إيمانويل كانط والعنصرية
د. حميد لشهب- النمسا
من بين الفلاسفة الألمان الذين لم يستفيدوا مما نظروا له في نظرية المعرفة وفي فلسفة الأخلاق، هناك إيمانويل كانط 1724 – 1804))، الذي لم يبخل على الثقافة العنصرية الغربية بشيء، بل هو واحد من بين آخرين دعوا إلى تصنيف البشر طبقا لمعايير عرقية. وكان المعيار الذي اختاره في تقسيم الأجناس هو معيار اللون أساسا، معتبرا البيض أكثر ذكاء وقدرة على بناء الحضارات. وخصص للون الأصفر الدرجة الثانية وكانت الدرجة الثالثة عنده للزنوج، وتتبعهم كل الأجناس الأخرى؛ مع تأكيده على أن الهنود الحمر يحتلون الدرجة السفلى، معتبرا إياهم أسوأ جنس وهم عنده أقل تطورا وذكاء. وبربطه مسألة العرق بالقدرة على التفكير، انزلق كانط انزلاقا إلى هاوية العنصرية المُدَبَّرة.
من مظاهر العنصرية عند كانط نسجل النظرة الدونية التي كان يحملها عن الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، متهكما بكون الكونفوشيوسية لم تضف أي شيء في الأخلاق، ودليله على ذلك غياب كل مفاهيم الفضيلة والأخلاق في عقول الصينيين: «لا توجد فلسفة في الشرق ومعلمهم كنفوشيوس إنما كتب في العقيدة والأخلاق للأمراء والأميرات ناقلاً بعض نماذج في التشريع عن السلف من الحكام أما المبادئ الأخلاقية والفضائل فلم تلج فهم الصينيين أبدا». ونكران وجود الفلسفة في عموم الشرق كان سائدا عند الكثير من الفلاسفة الغربيين، الذين حصروا أصل التفكير الفلسفي عند الإغريق. واستمر هذا الاعتقاد إلى الوقت المعاصر مع دريدا مثلا، الذي قال مرة وهو في الصين بأن لا فلسفة في هذا البلد، بل فقط أفكار، مؤكدا أن الفلسفة لا توجد إلا في أوروبا، وهي مرتبطة في نظره بتاريخها ولغتها وإرثها اليوناني.
فبما أن أصل كلمة «فلسفة» يوناني فهو حتماً يشير إلى تقليد نشأ وتطور في اليونان فحسب، في اعتقاد مثل هؤلاء الفلاسفة. وهناك من رأى أن الفلسفة لم تنشأ إلا مع جمهورية أفلاطون.
يقول كانط، في كتابه «الأنثروبولوجيا»: «ينضج الرجال في البلدان الحارة بسرعة من جميع النواحي، لكنهم لا يصلون إلى كمال المناطق المعتدلة. تصل الإنسانية أكبر كمال في العرق الأبيض. يمتلك الهنود الصُفر موهبة أقل. ويوجد الزنوج في مرتبة أقل». ولا يكتفي كانط بهذا فقط، بل يقول بأن البيض: «يملكون كل دوافع الطبيعة في المشاعر والعواطف وكل الاستعدادات للثقافة والحضارة وباستطاعة الطاعة بسرعة عوض الحكم. إنهم الوحيدون الذين يتقدون للكمال». وتمثل مثل هذه المواقف الفكرية أساسا جوهريا من أسس التفكير الفلسفي والأخلاقي لكانط.
يقول في مقارنته بين الجميل والجليل: «إن الشعور الجميل هو شعور مبهج يبعث على الفرح والابتسام، أما الجليل فهو شعور مبهج مصحوب بالخوف والرهبة، كأن يقف المرء أمام أمر عظيم فيشعر أمامه بالإعجاب والرهبة». لكنه لا يرى في الأفارقة لا جمالا ولا جلالا، لأنهم لا يملكون أي مشاعر راقية، وبالتالي لا يرى بأسا في التخلص منهم، ويرى أنه لا يجب تجريم الأوروبيين في المستعمرات لتعاملهم القاسي مع الأفارقة.
آمن كانط بأن بعض الاختلافات بين البشر هي اختلافات فطرية. وزعم في كتابه «عن الفروق بين الأعراق البشرية» (1775) أن هناك جنسا بشريا واحدا ذا عدة «أعراق» وهذه بدورها تملك صفات وقدرات وراثية مختلفة. وساهم هذا، بل شجع، على تأسيس البيولوجيا العنصرية، وادعى أنه لا يمكن لجميع الأعراق الوصول إلى نفس المستوى من «التحضر»، ويكفي هذا للمس كيف كانت العنصرية منسوجة بخيوط التنوير والحداثة والفلسفة التجريبية والعقلانية على حد سواء.