عندما يصبح التدين ضد الحياة
خالص جلبي
ما يحصل في السعودية هذه الأيام جيد وسيئ. جيد في التخلص من تدين مقيت معيق للحياة، وهو سيئ لأنه يطلق بهيمية الغرائز بدون ضبط. وهذه تقود إلى نتائج انفجارية كما في انفجار (الكوكوت). ذلك أن رسوخ العادات الاجتماعية يحتاج إلى تأن في التغيير نحو الأحسن، هذا إن كان فعلا نحو الأحسن. يروى عن إيفان الرهيب في روسيا ضربا من هذا التحول الانفجاري. مع ذلك فهناك قانون (نوساني) يحكم ضبط المجتمع وتحولاته. بمعنى أن التشدد يقود في النهاية إلى التفلت، وفرط الستر إلى الإباحية المجنونة. حاليا قد يتوقف هوس الجنس، مع اكتشاف جسد الأنثى في السعودية، بعد طول انتظار وقد ينتهي بمذبحة أخلاقية عارمة. أو قد يفضي إلى تجمد المجتمع في التاريخ، كما هو الحال مع جماعة الآميش التي رأيتها في أمريكا ومثلتها هوليوود في فيلم (الشاهد Witness).
على مسيرة ساعة من مدينة فيلادلفيا بأمريكا، توجد طائفة اسمها (الآميش) شكلها إنساني، ولكنها متوقفة في الزمن في القرن السادس عشر للميلاد في متحف حي، ومثلها شبها جماعة صغيرة في منطقة القصيم بالسعودية أيضا لا يتعاملون بالنقد ولا يختلطون بالناس. رأيت أنا الآميش عيانا، حيث يركب فيه الناس الحمير والبغال ولا يستخدمون الكهرباء والتلفون، ويعتبرون أن التعليم الحديث قرن الشيطان. وعندما يمرر (الحنطور) المتثاقل من العصور الوسطى، يتوقف طابور السيارات للتأمل كما يفعل الناس في السفاري فيدهشون لرؤية النمر والزرافة. وأهم ما فيهم أنهم مسالمون ويتحملون سخرية الناس بصبر، ويعيشون على هامش المجتمع فينتجون ويبيعون، ويحميهم المجتمع الأمريكي كتحفة أثرية يزورها الناس مثل زيارة المتاحف.
وهذا النموذج له ما يشبهه في السعودية (أظنها منطقة الحمر)، بفارق أنهم عدوانيون يقاطعون المجتمع كلية ويكفرونه ولا يسمحون بزيارة ومقابلة ولا يتعاملون بالنقد، بل المقايضة كما ذكرنا، في انقذاف إلى الخلف مقداره 20 ألف سنة مما تعدون. ومن الغريب أن الذي شكل مجتمع الآميش وغير الآميش هي المفاهيم الدينية المتشددة.
التدين يشبه الملح من جانب، فبدون الملح يفقد الطعام كل نكهة. وبدون التدين تنقلب الحياة إلى عبثية لا معنى لها وإلحاد يقود إلى الانتحار. وبقدر حاجة البدن الضرورية لقوامه إلى الملح، بقدر تسممه إذا زادت الجرعة عن حد معين. وإذا أخطأت الأم في مطبخها، فوضعت كمية كبيرة من الملح في الطعام، عافته نفوس أطفالها مع كل حبهم لطعامها. فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة أنعش الكيان ومنح الإنسان زاد التقوى ومعين الصبر، وألغى عبادة الأشخاص. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب، والعلاقات إلى عداوات، والحياة إلى جحيم لا يطاق من المحرمات. وبرمجت الحرب وانقسم الناس إلى شيعتين: من يؤمن بالقتل وسيلة لحل المشاكل من إخوة فرعون ذي الأوتاد. ومن لا يبسط يده بالقتل ولو هدده أحدهم بالقتل ويدخل فيه الأنبياء وغاندي ومالكولم إكس وسقراط وروزا باركس.
إن كلا من (الفيزياء) و(الكيمياء) و (الطب) و(علم النفس) و(قوانين المجتمع) ترفدنا بشواهد على هذه السنة النفسية الاجتماعية. فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض، ونقص الكالسيوم يفضي إلى تكزز العضلات. وزيادة النحاس في الجسم تقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون. وجرعة من الخوف ضرورية للحفاظ على الحياة، ولكن زيادتها تدفع إلى الجنون. والتشدد في الدين تطرف وجنون بدون مصحات عقلية؛ فهذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها المناسب الذهبي تعطي الحياة نكهة ومعنى وجرعة توازن. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.
يقوم الكون على التوازن. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز والعواطف في حالة وسطية. والشجاعة هي حد الوسط بين الخوف والتهور. وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تجمد ولا تتفجر؛ فالكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد. ولكنها قاتلة، إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. والماء جيد إذا حبس خلف السد فاستفاد منه الناس في سقاية الأرض، وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان.
ويصدق هذا القانون على التدين، ولذا جاء تعبير القرآن «فاستقم كما أمرت ولا تطغوا». فالاستقامة هي الحالة الوسطية بين الطغيان واللامبالاة. وعندما يذكر القرآن الإنفاق يقول، «وإذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». فالقوام هو وضعية الوسط بدون ترنح وسقوط في أي اتجاه.
ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي. وعندما أرادوا تحليل الأخلاق وصلوا في النهاية إلى أن حاصل الأخلاق ينتهي إلى ثلاثة، هي العفة والشجاعة والحكمة. وكل خلق من هذا هو وسط بين حدين، وبتعبير أرسطو فإن كل فضيلة هي وسط بين رذيلتين. وأكبر نكبة للفكر هي التشدد، وما يتولد عنه من ظاهرة التكفير، لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على توازن الفعل ورد الفعل. وعضلات الجسم ليست في حالة توتر، بل هي بين الانقباض والانبساط. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية، ويسمونها الين واليانغ. والكهرباء هي في حالة تردد وتدفق للسيالة الإلكترونية، بين السالب والموجب. وقام توازن الذرة بين الإلكترونات والبروتونات في شحنتين متعادلتين. ولا يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص والارتخاء. ولن يخرج الدين عن هذا القانون، الذي هو أسمى شيء في الوجود ويعطي للحياة معنى. ولذا فإن التشدد هو ضد قوانين الحياة، وهو يدمر نفسه ومن حوله. والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذه الآفة، كما يصيب مرض القراد خلايا النحل فيقطع الأجنحة ويقصم الظهر، وإذا لم يبق للنحلة جناح فلن تجمع الرحيق بحال.
وفي قناعتي أن الحالة التي تمر بها السعودية، سوف تجرف جيلا كاملا كما حصل مع جيل التشدد السابق، فيستعيد توازنه بعد جيل آخر، أي خلال نصف قرن القادم. تحت قانون (النوسانية) والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.