عندما كان سكان طنجة يعتبرون أنفسهم أوربيين
بعضهم من الأعيان وآخرون اشتغلوا مع دبلوماسيين وقناصلة
يونس جنوحي
«كان سكان طنجة يتابعون كيف أن السفن الضخمة كانت ترسو على بعد أمتار فقط من المدينة، وكان ممنوعا الوصول إليها لدواع أمنية وعسكرية وقد كتب عنها السفير الأمريكي هولت في مذكراته عن المغرب، والتي خصصها كلها تقريبا للحديث عن طنجة التي سحرته ما بين سنوات 1908 و1912، رغم أنه قضى سنوات سابقة بمدن عربية أخرى في الشرق قبل أن يُكلف بمنصب قنصل عام أمريكي في طنجة. قال هولت إنه تعرف على المجتمع المغربي من خلال طنجة، وسمع كثيرا عن «تخلف» باقي المناطق في المغرب مقارنة مع الانفتاح الذي وصل إليه سكان طنجة بفضل احتكاكهم مع الأوربيين عن قرب، حتى أن هناك عائلات مغربية أصبحت تسكن نفس المنازل مع المغاربة البسطاء، الذين سرعان ما اعتادوا على الحياة الأوربية. ومن بين الأسرار أيضا، أن بعض ضباط المخابرات الفرنسية كانوا يستقرون في طنجة بغطاء مدني، مدعين أنهم تجار أو مستثمرون، والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن بعض الأسماء التي فرت من الداخل إلى طنجة للاحتماء هناك إلى أن تنجلي أزمتهم إما مع الحماية الفرنسية بعد 1912، وإما مع المخزن».
أعيان طنجة بعيون الإيطاليين
لم يكن أعيان طنجة الحقيقيون يختلفون في أي شيء عن الأوربيين. لقد أفرز التعايش الكبير بين المغاربة، الأثرياء منهم على وجه الخصوص، وبين نخبة الأجانب في دروب مدينة طنجة وأطرافها، نوعا من الألفة، أصبح معها أعيان مدينة طنجة هم النخبة المغربية الأولى التي تعرفت على الحياة الأوربية، وليس الفاسيين وحدهم كما يعتقد البعض.
الفاسيون تبنوا مظاهر الحياة العصرية بعد صراع مرير مع المحافظين المغاربة، وبعد معركة «المحميين» الذين حصلوا على جوازات سفر أوربية للاحتماء من قانون المخزن المغربي، الذي فرض الضرائب على الأثرياء المغاربة، اختاروا اللجوء إلى أصدقائهم الأجانب الذين حصلوا لهم على جوازات سفر أجنبية تعفيهم من البقاء تحت رحمة قرارات المخزن في سنوات الأزمة، وهو ما جعل العلماء يكفرون هؤلاء الأعيان المغاربة الذين اختاروا حمل جوازات سفر أجنبية وإعلانها في وجه الدولة.
أما أثرياء طنجة، فالأمر عندهم مختلف تماما. كان هناك تعايش كبير بينهم وبين الأوربيين، ووجدوا أنفسهم في كنف الحياة الأوربية الجديدة التي حملها هؤلاء الأجانب معهم إلى طنجة، خصوصا بعد سنة 1910، حيث أصبحت طنجة تتوفر على بنايات من الطراز الأوربي وأندية للترفيه ومقاه وفنادق مصنفة. حتى أن الأعيان المغاربة كانوا يأتون لمتابعة العروض التي كانت تنظمها السفارة الإيطالية، حسب أرشيف الصحافة الإيطالية نفسها. فقد كان الإيطاليون سباقين إلى تنظيم حفلات وأمسيات شعرية يدعون إليها مختلف الجنسيات الأوربية وكبار الأعيان المغاربة. حتى أن بعض هؤلاء الأعيان المغاربة الطنجاويين، شدوا الرحال إلى باريس ولندن لمتابعة عروض بعض الفرق الشهيرة والمسرحيات الكبرى التي كانت تكتب عنها الصحف الأوربية مقالات دورية. فاختاروا السفر لرؤية مظاهر الحياة الأوربية التي تعرفوا عليها في طنجة، في موطنها الأصلي.
لن نتطرق هنا إلى قصص هروب الأثرياء المغاربة من المدن الداخلية نحو طنجة. ما يهمنا هنا هو قصص الطنجاويين أبناء عائلات الأعيان، الذين فتحوا أعينهم في مدينتهم، ووجدوا الأوربيين بينهم.
أعيان طنجة، حسب أرشيف المفوضية الإيطالية التي كانت تنشر مقالات دورية في الصحف الإيطالية لنقل ما يقع في طنجة للرأي العام الإيطالي قبل الحرب العالمية الأولى، كانوا يتقنون الرياضات خصوصا الفروسية. ورغم أن الإيطاليين لم ينجحوا مقارنة مع البريطانيين في نسج صداقات متينة مع المغاربة، إلا أنهم تحدثوا عن طنجة بشكل إيجابي ووصفوها بالمدينة التي تتنفس هواء أوربيا، في إشارة إلى مظاهر الحداثة التي أصبحت تميز المدينة وقتها، والمسارح ودور العرض والفنادق التي نشأت في جنباتها في زمن قياسي. بالنسبة إلى الإيطاليين كانت طنجة فرصة لهم لكي يضعوا قدمهم في السباق الأوربي على المغرب، لكنهم لم يختبروا مثل الفرنسيين، حقيقة الحياة المغربية، ولم يتوغلوا نحو الداخل لكي يكون لهم موقف إيديولوجي من المغاربة، اللهم إلا المرة الوحيدة التي جاء فيها السفير الإيطالي سنة 1909 إلى المغرب للقاء السلطان، لكن اللقاء لم يتم كما كان يتوقعه الإيطاليون، ووجدوا أن منافسيهم في بريطانيا قد سبقوهم. لتبقى لهم منطقة طنجة الدولية، رغم أنهم غادروها مبكرا، إلا أن بصمة الإيطاليين بقيت حاضرة لسنوات، خصوصا وأنهم فتحوا أعين الأعيان المغاربة الذين كانوا يتوفرون على إمكانيات لعيش حياة على الطراز الأوربي، على الموسيقى والمطعم الإيطاليين.
الطنجاويون تعرفوا على السلاح والسفن قبل الجميع
كانت السفينة الشهيرة جورجيا التي رست في شاطئ طنجة سنة 1909 أشهر عملاق بحري يرسو في المغرب خلال تلك الفترة. وظل الطنجاويون يتحدثون عنها لسنوات. فقد كانوا متآلفين مع السفن الصغيرة أو العادية التي تقل الركاب من أوربا نحو طنجة. لكن السفينة البحرية كانت حدثا كبيرا، خصوصا وأن المولى عبد العزيز الذي كان بصدد مغادرة المغرب كان ينتظر الوقت المناسب للسفر واغتنم وجوده في طنجة لكي يزور السفينة، وهكذا احتشد سكان المدينة لمتابعة الحدث. القنصل الأمريكي «مستر هولت» وقتها كان حاضرا، بل ووجه دعوة رسمية إلى أعيان طنجة لكي يقوموا بجولة في البارجة البحرية الأمريكية. ودعا السلطان شخصيا إلى استكشاف السفينة الراسية في ساحل طنجة: «في المرة اللاحقة التي رأيت فيها المولى عبد العزيز كان لدي شرف مرافقته إلى السفينة الحربية الأمريكية «جورجيا»، والتي كانت تزور طنجة رفقة سفينة أخرى اسمها «نبراسكا». الأدميرال ريشارد وينرايت، كان هو رئيس الأسطول، وبعد استشارة معه هو والوزير الأمريكي السيد كومر، جاء السلطان السابق عبد العزيز في اليوم الموالي لاستكشاف السفينة.
كانت هذه الزيارة مهمة لي لعدة أسباب. لكنها كانت مهمة أساسا لأعرف كيف سيتصرف معه العبيد الذين لم يعودوا بشكل تلقائي تابعين له، بالإضافة إلى أن منزله كان يقع خارج سور المدينة، وهو الأمر الذي أثار فضولي وأردت أن أعرفه عن قرب.
وهكذا كان علي أن أكون دقيق الملاحظة لكي ألتقط أبسط الإشارات الصادرة عنه. تم تحديد وقت الزيارة مع تمام التاسعة صباحا.
كان الشاطئ خاليا من المغاربة، باستثناء بعض الصيادين الفقراء والبحارة الذين ينتظرون قدوم السفن ليشتغلوا مرشدين للسياح. لقد تفاجأت عندما رأيتهم يتزاحمون حول المولى عبد العزيز ويقبلون عباءته ويتمسحون بها، ويغمغمون عبارات ترحيبية.
أسرعنا في اتجاه القارب، وما هي إلا لحظات حتى أصبحنا على ظهر «جورجيا». كان طبيعيا أن يكون المولى عبد العزيز مهتما جدا بتفحص السفينة، لأنها المرة الأولى في حياته التي يرى فيها باخرة حربية. في الحقيقة، كانت الوحيدة التي صعد على متنها. استغرقت الرحلة ساعة، كان صامتا في أغلب اللحظات. كان يصغي جيدا للشروحات التي تقدم له بخصوص تجهيزات وقدرات الباخرة الحربية.
كان يتجول ويتفحص بيده معدات حديدية تزن بضعة أطنان. عندما دخل إلى غرفة المحرك في أسفل السفينة، كان يرفع «الكسا»، وهو اللباس الأبيض الطويل الذي كان يرتديه، لكي لا يتسخ بشحم المحركات.
إنه من الصعب أن تُفاجئ مغربيا. وأعتقد أن عبد العزيز تفاجأ فعلا: «عجوبة.. عجوبة». هذه العبارة تلخص كل تعليقاته. باستثناء المرة التي سمع فيها هاتف السفينة، وللمرة الأولى، صوت بشر ينبعث من آلة. وضع جلالته السماعة بسرعة وإصرار، وانسحب من الباخرة. قال متعجبا: «الجنون.. ما مزيانش»، كان يقصد الأرواح الشريرة.
كانت تنتظرنا مفاجأة عند الخروج، وجدنا أن الباخرة من بدايتها إلى نهايتها كانت محاطة تماما بالبشر. لا أعرف كيف انتشر خبر وجود السلطان المعزول على متن الباخرة بتلك السرعة. كان هناك ما لا يقل عن ألفي مغربي ينتظرون قدومنا. كانت هناك طريقة واحدة فقط للنزول، وهكذا واجه عبد العزيز الموقف بشجاعة واخترق جوقة الموسيقى..».
خرافات نسجت عن مغاربة الحدود مع أوربا
ربما كانت الأخبار التي يسمعها مغاربة المناطق الداخلية عن طنجة، مستفزة وغير قابلة للتصديق. لكن الأكيد أن هناك من حاول عيش «الحلم الطنجي» عبر الفرار من مناطق «السيبة» والاحتماء بطنجة، ليتكون جيل جديد من الوافدين على المدينة، ممن تركوا خلفهم مشاكل عديدة مع المخزن، أو مع القبائل التي كانوا ينتمون إليها.
أحد هؤلاء القادمين الجدد، كان يحظى بامتيازات كبيرة في مسقط رأسه في الحدود المغربية الجزائرية، وكانت عائلته تتمتع بقرابة مع الأمير عبد القادر الجزائري، وفر من بلاده بسبب علاقته بفرنسا وسعي بعض الثوريين إلى اغتياله، رغم أنه من عائلة الأمير عبد القادر. جاء إلى طنجة أواخر سنة 1902، كما ذكر ذلك مساعد مفوض الشرطة الفرنسية «السيد كلودين» في مذكراته التي كتبها سنة 1930، والتي تحدث فيها عن أيام اشتغاله بالدار البيضاء، ثم تقاعده بمدينة طنجة التي لم يغادرها إلا في آخر سنتين من عمره متوجها إلى باريس للعلاج. إذ ذكر أنه التقى هذا الجزائري في فندق بطنجة وتحدث عن الثروة الكبيرة التي جاء بها معه من الجزائر، وتحدث له عن جده الذي كان من أبناء عمومة الأمير عبد القادر الجزائري، وكيف أنه كان معجبا بالحياة التي كان يعيشها الفرنسيون في بلاده ليحظى بصداقات مع بعضهم، وتمت مكافأته في الأخير بالعمل في طنجة منسقا مع بعض التمثيليات الدبلوماسية مستغلا إتقانه للفرنسية والإسبانية، والعربية بطبيعة الحال للتواصل مع كبار أعيان طنجة.
تحدث هذا الرجل عن طنجة التي أحبها وقال ما معناه إنها مدينة للفرص، لكن مغاربة الداخل يشعرون بميز كبير بينهم وبين مغاربة طنجة، الذين انفتحوا على الأوربيين والحضارة القادمة من وراء البحر، بالإضافة إلى أنهم كانوا أكثر تسامحا، وأقل تأثرا بموجة السخط التي سرت بين سكان القبائل. لقد كان هناك فرق كبير بين سكان العرائش والقبائل في الطريق إلى فاس، وبين سكان طنجة. إلى درجة أن سكان المناطق الأخرى، خصوصا نواحي فاس والدار البيضاء وقبائل مراكش يعتقدون أن سكان طنجة اعتنقوا الدين المسيحي. وقد ذكرت بعض الأخبار التي جمعها المختار السوسي وطعن في صحتها منتصرا لسكان طنجة، أن سكان المدينة توقفوا عن التردد على المساجد وأصبحوا يقلدون الأوربيين يوم الأحد. أي في ترددهم على الكنائس وارتداء ملابس الاحتفال، وإحياء حفلات رأس السنة. وكانت كل هذه الإشاعات غير صحيحة بطبيعة الحال. لأن أشهر الأجانب الذين كتبوا عن طنجة وقضوا بها سنوات طويلة من حياتهم، تحدثوا عن تعايش كبير مع المغاربة في جو من الانضباط الأمني، الذي كانت تمليه ظروف إقليمية جعلت من طنجة «منطقة دولية».
مرد هذه الانطباعات هو السياق التاريخي الذي عرف فيه المغاربة عموما أن أحسن وجهة للفرار من المتاعب أيام السيبة هي طنجة، لكن فقط بالنسبة للذين يملكون ما يكفي من المال لبدء حياة جديدة هناك وتأسيس مستقبل مالي وسط الأوربيين، كما وقع لشريف وزان الذي تخلى عن حياته ومركزه الاجتماعي وسحب معه بعض المال الذي اشترى به إقامة فخمة في قلب طنجة، حتى تعيش زوجته الأوربية الجديدة قريبة من مواطني بلادها بعيدا عن المشاكل التي لاحقته بسبب زواجه ببريطانية. هذه الواقعة التي حدثت أواخر القرن 19، ساهمت هي الأخرى في تقوية الإشاعات التي نُسجت عن طنجة، وجعلت منها مدينة خُرافية، يراها كل مغربي حسب الانطباعات التي تكون لديه.
سفراء أجانب وصفوا أثرياء البوغاز بـ«الظلاميين»
سنورد هنا قصة ممثل المفوضية البريطانية الشهير، السيد «دريموند هاي». هذا الرجل لم يكن فقط ممثلا دبلوماسيا لبلاده في المغرب خلال بداية القرن 20، وإنما أيضا صديقا مقربا للقصر في ذلك الوقت، وهو الذي أقنع كبار شخصيات المخزن المغربي بتبني عدة إصلاحات خصوصا في المجال الضريبي.
وفي الوقت نفسه كان هذا الرجل مفتونا جدا بمدينة طنجة، التي قال عنها إنه لا يرتاح إلا عندما يدخلها، ولا يطمئن للمبيت في أي مدينة مغربية أخرى غيرها. لكن علاقته بأعيان طنجة كانت مختلفة تماما عن علاقته بالوزراء المغاربة الذين كانوا جميعا مستقرين في فاس، بحكم أنها كانت في ذلك الوقت عاصمة للبلاد.
أحد هؤلاء الأثرياء الذين أصبحوا من معارف الدبلوماسي البريطاني الشهير يسمى الحاج بن عبد السلام، وقد ذكر اسمه في بعض المراسلات الرسمية للقصر الملكي، عندما كان ممثلا للسلطان في طنجة أواخر فترة 1880. أي في عهد المولى الحسن الأول. لكنه بحكم تقدمه في السن وبحكم عدم انسجامه مع الوزير المغربي الشهير باحماد، بعد وفاة المولى الحسن الأول، تم إعفاؤه رغم أنه كان شخصية مؤثرة بحكم امتلاكه لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المتاخمة لمدينة طنجة.
أمثال هذا الرجل كانوا بالنسبة إلى الدبلوماسي البريطاني مجرد متقاعدين أو شخصيات تم إعفاؤها من رمزية السلطة، والدليل أنه لم يكن يلجأ إلى أية استشارات، وكل القصص التي ذكرها في مذكراته عن المغرب ترتبط بالقصر مباشرة، ولم يخصص لهؤلاء الأعيان إلا حكايات عابرة في مذكراته تدور كلها عن سحر مدينة طنجة ومزاج سكانها الذين كانوا يتابعون ما يقع داخل المغرب من تقلبات وصراعات سياسية، وهم يعلمون أن طنجة خارجة تماما عن ذلك السياق.
لقد كانت المدينة إذن مخصصة لتقاعد الشخصيات التي لعبت أدوارا سابقا في خدمة المخزن.
ولا يمكن الحديث عن هؤلاء دون ذكر الوزير الشهير المهدي المنبهي، الذي أصبح بدوره طنجاويا منذ سنة 1908 تقريبا، وهي الفترة التي تم عزله فيها من منصب وزير الحرب، ولم يجد أمامه سوى طنجة لكي يأتمنها على ثروته وحياته. فقد كانت له عداوات كبيرة مع بعض الوزراء المغاربة المنافسين له، وكان مدركا أنه سيتعرض للاغتيال من أحدهم بعد تجريده من سلطته، لذلك احتمى بطنجة وشيد قصره هناك وعاش حياة أوربية إلى آخر أيام حياته مع اقتراب الثلاثينات. حتى أن اسمه ارتبط لدى قدماء مدينة طنجة بملاعب التنس والفنادق المصنفة وملاعب الفروسية والحدائق. فقد كان الرجل محبا لرياضات الأوربيين وطريقة عيشهم، ومات في طنجة التي لم يخطط يوما للعيش داخل أجوائها.
ورغم ذلك فإن شخصية الوزير المنبهي أو ممثل السلطان سابقا بن عبد السلام، كلاهما لم يسلم من الانتقادات التي كان مصدرها الأعيان الأوربيون وممثلو السلك الدبلوماسي للأجانب بالمنطقة الدولية. فقد قال دريموند هاي عن بن عبد السلام إنه كان مجرد رجل من الطراز القديم، ولم يكن يصدق وجود وسائل نقل في أوربا، ولم يعرف في حياته كيف يرسل رسالة عبر التلغراف أو حتى كيف يستعمل الهاتف، وكان يعتبر ركوب السيارة أمرا محرما على المسلمين أمثاله، ورغم أن منزله كان مفتوحا أمام الأجانب، إلا أنه كان يعلن كثيرا عن أفكاره القديمة معتقدا بعدم إمكانية وجود أي تعايش مع «النصارى»، وهو الأمر الذي كان يضعه في تناقض كبير أمام ضيوفه.
أما الوزير المهدي المنبهي فقد تلقى انتقادات هو الآخر، بخصوص حريمه وزوجته التي كانت نساء الموظفين الدبلوماسيين يرغبن في لقائها، تقربا من الرجل الذي نُسجت حكايات كثيرة عن ثروته الضخمة التي هرب بها من فاس إلى طنجة. وكتبت عنه مقالات في الصحافة الإيطالية وقتها والبريطانية، تنتقد الدبلوماسيين الذين كانوا أصدقاء له، ووصفوه بالرجل الرجعي والخطير والحامل للأفكار السوداء. ورغم ذلك فإنهما كانا من الأسماء التي أثثت تاريخ طنجة بحق، رغم أن جزءا كبيرا من ذلك التاريخ قد طُمس برحيل المعالم التي كانت شاهدة عليه، غير بعيد عن منطقة البحر المتوسط.
هذه أقوى قصص الطنجاويين الذين تزوجوا أوربيات وانتهوا بشكل مأساوي!
هناك مؤلف سلط الضوء بقوة على مدينة طنجة، وكتبته امرأة بريطانية لم تعش في المغرب طويلا، لكنها قضت كل فترة إقامتها في طنجة وحاولت فهم المجتمع المغربي من خلالها. أطلقت على كتابها الذي أصدرته فور عودتها إلى بريطانيا سنة 1873: «شتاء في المغرب». هنا نورد قراءة فيه.
تقول آميليا إنها سمعت بقصة رجل في طنجة جاءت والدته من منطقة جبل طارق، وأقامت في طنجة لفترة ليتعرف عليها واحد من أثرياء طنجة، وكان على قدر من العلم والانفتاح، وهو ما سمح له باختيار زوجة أجنبية، وهو الأمر الذي كان جريمة كبيرة في ذلك الوقت. إذ لم يكن المغاربة يتصورون أن يكون هناك أي التقاء بينهم وبين الأجانب من الناحية الحضارية، فما بالك بالزواج.
لكن قصة هذا الطنجي الذي كان رجلا متحررا، علما أن آميليا لم تذكر اسمه، تستحق فعلا أن تروى. تقول آميليا: «كدليل على انفتاح هذا الرجل وتحرره، فقد قام مرة بدعوة صديقه المسيحي إلى منزله، وقدمه لزوجته. لم يكن المسيحي راضيا عن الزواج الغريب لمواطنته من مغربي رغم أنه صديق له. وتكررت زياراته إلى منزل الرجل المغربي، وهكذا أصبح الرجل ضيفا دائما على المنزل.
هذا الأمر لقي معارضة شديدة في صفوف سكان الحي الذي كانت تقطنه الأسرة، وكانوا يعلمون أن الأجنبي يزور منزل الرجل الطنجي بانتظام لكي يجلس مع زوجته.
في إحدى المرات، جاء الضيف الدائم إلى المنزل، وبعد طرق الباب أُخبر أن صاحب البيت غائب، لكنه أراد الدخول، وفعلا سمحت له الزوجة بدخول المنزل وانتظار قدوم صديقه المغربي. كان بعض الجيران يراقبون هذا المشهد، وكانوا يعلمون أن صاحب البيت غائب، وهكذا انتشر الخبر إلى أن وصل إلى أسماع صاحب البيت، عندما كان في طريق عودته إلى منزله.
قالوا له إن المسيحي الذي كان يعتبره صديقا مقربا له ويدخله إلى بيته قد استغل غيابه ليختلي بزوجته. ولسوء الحظ، فقد كان صاحب البيت بمزاج عنيف وكان رد فعله غير متوقع. كان غاضبا وتحدوه رغبة كبيرة في الانتقام.
اقتحم باب منزله، ووجد صديقه يتحدث مع زوجته في قلب المنزل. دون أن يوجه له أي سؤال أو يطالبه بأي تفسير، استخرج خنجره وطعنه مباشرة في قلبه.
تم اقتياد الرجل المغربي إلى المحكمة، وحكم عليه بالإعدام على خلفية ما قام به، لكن الحكم لم يُنفذ.
استعطفت أم الجاني والدة القتيل، في المحكمة، وأمام استعطافها، تم تغيير الحكم من الإعدام إلى سنوات طويلة من السجن».
في الحقيقة، تقول آميليا إنها عندما تسرد هذه القصة، فإنها تحاول فقط إعطاء صورة عن الطبقة الراقية في طنجة، خلال الفترة التي زارت فيها المغرب. تقول أيضا إنها تعرفت على واحد من أكبر الملاكين في طنجة، وهو شاب ينحدر من أسرة فاحشة الثراء، وسمعته مرات كثيرة يتحدث إلى الناس، ويحظى بتقديرهم. قالت إن درجة ثرائه تعادل ثروة الأغنياء في بلادها أيضا. وتحكي أنها زارت منزل هذا الثري. تقول: «لقد كنت آمل أن أجد في بيته ما يعكس فعلا درجة ثرائه الكبير أو تأثره بحياة الأوروبيين، كأن أجد بعض انعكاسات تعليمه المتقدم ووعيه الكبير. لكني أصبت بخيبة أمل كبيرة. لقد استقبلنا عبد أسود البشرة، وكان وسيما على كل حال. كان المنزل مبنيا بالكامل على الطريقة المغربية. كانت ساحة المنزل واسعة جدا، ومزينة بمربعات من الرخام الملون.
استقبلنا بحفاوة، لكن نساء المنزل لم يقدمن لنا أنفسهن إلا بعد مرور وقت على دخولنا إلى المنزل. سمعنا فقط صوت هروبهن واختبائهن، عندما كنا بصدد الدخول.
لقد دعينا إلى الجلوس في غرفة تحتوي على فراش أرضي، لكنها لم تكن مزودة بالنوافذ نهائيا. وبعد ذلك سمعنا العبد الأسود الذي فتح لنا الباب، يصعد إلى الدور العلوي ليعلن قدومنا. كنا نسمع أصواتا لا نفهمها. لكنها توحي بأن النساء كن يستعدن ويتزين للخروج للجلوس معنا. كانت معي سيدة اعتادت القدوم إلى ذلك المنزل بانتظام، وأخبرت العبد أن يطلب من سيدات المنزل أن يأتين دون وضع الزينة ودون استعداد. لكن العبد شرح لنا أن صاحب المنزل غائب ويوجد في المزرعة، وهكذا فإن النساء لم يكن يرتدين ملابس مناسبة كما أن البيت لم يكن منظما، لأن صاحبه غائب. لكن إذا انتظرنا بضع دقائق فقط، فإنهن سينزلن لاستقبالنا. أخبرناه بالمقابل أن وقتنا ضيق أيضا، ولا نمانع أن نراهن على طبيعتهن وأنه لا حاجة لكي يتأنقن للقائنا.
بعد برهة، نزلت فتاتان صغيرتان في السن، وكانتا متسختين وبشعتين، لكن في غاية السعادة والحماس، وبدأتا تطلان على الغرفة التي كنا نجلس فيها. أخبرتنا الأولى أن عمرها 12 سنة، والثانية في الرابعة عشرة من عمرها. لم تكونا أكبر من العمر الذي باحتا به. لكنهما لم تكونا بطول الفتيات الإنجليزيات اللواتي في مثل عمريهما».
أسرار خطيرة عن مدينة ماتت بموت المعالم الشاهدة عليها
من بين الأسرار التي كتمتها المدينة في وقتها، التخطيط للإنزالات البحرية في فترة الحرب العالمية الأولى. فقد شهد ميناء طنجة عمليات بحرية لنقل معدات الحرب عبر السفن وعبور الجنود الأفارقة الذين شاركوا بقوة في الحرب العالمية الأولى، أواخر سنة 1915، عبر طنجة وقضائهم لفترة راحة قبل عبور البحر نحو ميناء مارسيليا.
كان سكان طنجة يتابعون كيف أن السفن الضخمة كانت ترسو على بعد أمتار فقط من المدينة، وكان ممنوعا الوصول إليها لدواع أمنية وعسكرية وقد كتب عنها السفير الأمريكي هولت في مذكراته عن المغرب، والتي خصصها كلها تقريبا للحديث عن طنجة التي سحرته ما بين سنوات 1908 و1912، رغم أنه قضى سنوات سابقة بمدن عربية أخرى في الشرق قبل أن يُكلف بمنصب قنصل عام أمريكي في طنجة. قال هولت إنه تعرف على المجتمع المغربي من خلال طنجة، وسمع كثيرا عن «تخلف» باقي المناطق في المغرب مقارنة مع الانفتاح الذي وصل إليه سكان طنجة بفضل احتكاكهم مع الأوربيين عن قرب، حتى أن هناك عائلات مغربية أصبحت تسكن نفس المنازل مع المغاربة البسطاء، الذين سرعان ما اعتادوا على الحياة الأوربية.
من بين الأسرار التي احتوتها مدينة طنجة، أن الخطة العسكرية التي أدت إلى جرائم حرب خطيرة بالمغرب على يد الجيش الفرنسي جرى التخطيط لها في طنجة. ومن بين الأسرار أيضا، أن بعض ضباط المخابرات الفرنسية كانوا يستقرون في طنجة بغطاء مدني، مدعين أنهم تجار أو مستثمرون، والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن بعض الأسماء التي فرت من الداخل إلى طنجة للاحتماء هناك إلى أن تنجلي أزمتهم إما مع الحماية الفرنسية بعد 1912، وإما مع المخزن. وهؤلاء المخبرون الفرنسيون كانوا منتشرين بكثرة في طنجة، وقاموا باعتقال مواطنين مغاربة على مدى سنوات قبل نجاحهم في الفرار إلى خارج المغرب من ميناء طنجة.
هذا الوجه البوليسي والمخابراتي لمدينة طنجة ظل عصيا على الاختراق، رغم أنه الآن صار إرثا تاريخيا. فكل المذكرات التي كتبت عن طنجة وكل الانطباعات التي كتبها المشاهير، لم يتطرقوا فيها إلى الأسرار المخابراتية الدولية التي كانت منتشرة في مدينة اعتبرت إلى وقت قريب منطقة دولية تحاول كل دولة التحكم فيها أمنيا ودبلوماسيا. فبالإضافة إلى أنها تضم جنسيات كثيرة، فإنها تبقى منطقة عبور استراتيجية لعدد من الدول، وازداد دورها أهمية خلال فترة الحرب العالمية الأولى، فحتى الأمريكيون كانوا حريصين على سلامة المنطقة أمنيا، لأنها كانت معبرا وحيدا لهم نحو بوابة الشرق. لذلك بقي الدور «البوليسي» وعالم المخابرات الأجنبية في طنجة، سرا كبيرا مات بموت المعالم التي كانت تمارس فيها هذه الأنشطة التجسسية.