عندما طلبت فرنسا من المغرب طرد الأمير عبد القادر
قصة منسية تُثبت أن الأمير أطاع السلطان
يونس جنوحي:
الأمير عبد القادر الجزائري، رمز الثورة الجزائرية ومواجهة الاستعمار، كان يعلن الطاعة لسلطان المغرب، ويعترف بأفضال سلطان المغرب عليه. وكان أول من دعا القبائل التي كانت ملتفة حوله إلى تقدير الدور التاريخي الذي لعبه المغرب في توفير الحماية للثوار الجزائريين، مع كل التكاليف التي دفعها المغرب والمشاكل التي جُرت عليه، بسبب ذلك الدعم.
من يكون الباشا المغربي الذي مثل المغرب في اتفاق طلبت فيه فرنسا ألا يدخل الأمير عبد القادر مرة أخرى إلى التراب المغربي؟
هناك معطيات تاريخية مهمة جدا تتعلق بالموضوع، كما أن سياقه إلى اليوم لا يزال غائبا عن دائرة الضوء.
+++++++++++++++++++++++++
بن سلهام العرائشي.. مغربي فاوض فرنسا من أجل الجزائريين
رغم أنه لم يكن باشا عاديا، إلا أنه لم يكن ليدخل التاريخ لولا أن السلطان المغربي عيّنه لكي يمثل المغرب، أثناء التفاوض مع فرنسا، لوضع بنود الاتفاق الشهير بين فرنسا والمغرب، بعد معركة إيسلي والأحداث العصيبة التي تلتها، وأدى المغرب ثمن تعاونه مع القبائل التي بايعت الأمير عبد القادر غاليا.
تزامنت حياة هذا الباشا القوي مع وجود الأمير عبد القادر في منطقة الجزائر، وكانت وقتها الأخبار القادمة من هناك تجعل المغاربة يتأسفون على ما آلت إليه أوضاع إخوانهم، بعد هزيمة العثمانيين على يد جيش فرنسا، واحتلال البلاد رسميا. وهو ما كان يراه المغاربة تهديدا لهم، على اعتبار أن الدور سوف يأتي «علينا» لا محالة.
اسمه الكامل علي بن محمد أزطوط العرائشي، وهو أحد أقوى الباشوات الذين تقلدوا مناصب مهمة في المغرب، خلال فترة حكم كل من المولى سليمان، ثم مع المولى الحسن الأول، ابني المولى محمد.
كان هذا الباشا يتحكم في أشهر القواد الذين حكموا المغرب أيام المولى الحسن الأول، خصوصا وأن نفوذه كان يسري على منطقة كانت تعرف وجود تحركات إسبانية قوية لاستفزاز المغرب. لكن لماذا وقع عليه الاختيار تحديدا لكي يمثل المغرب في التفاوض مع فرنسا؟
ما زاد من حظوة هذا الباشا لدى السلطان، أنه لعب دورا كبيرا لإخماد السيبة سنة 1861. وهي الأحداث التي جرت في مصمودة، وأودت بحياة المئات ونزح بسببها آخرون إلى قبائل أخرى.
تكلف هذا الباشا بإرسال أحد أقوى القواد لديه، لإخماد التمرد، فتضاعفت حظوظه لكي يصبح عين المخزن في المنطقة، وأكثر الثقاة الذين عهد إليهم السلطان باختيار من يمثل المخزن في القرى ويجمع الضرائب، وهو ما يعني المزيد من السلطة. سيما عندما امتثل القائد بن عمر الشهير، الذي عرف عنه دمويته وشنه لهجومات على جيرانه وسلبه ممتلكاتهم، لتعليماته وتعهد ألا يعود إلى التمرد.
وتكللت ثقة المخزن في شخص بن سلهام العرائشي، عندما مثل المغرب في اجتماع تاريخي، بعد معركة إيسلي، لتوقيع اتفاق بين المغرب وفرنسا، كشفت مضامينه معطيات مهمة جدا عن حقيقة علاقة الأمير عبد القادر بالمغرب.
نحنُ والأمير عبد القادر.. أطاع سلطان المغرب وأهله أرادوا بيعه لفرنسا
حسب ما جاء في محاضرة نشرتها مجلة «دعوة الحق» سنة 1960 في عددها التاسع والثلاثين، وهي أشهر دورية جمعت أرشيف الدولة المغربية ونشرت إسهامات فكرية بارزة وغير مسبوقة أماطت اللثام عن مراحل غير معروفة من تاريخ المغرب، فإن اتفاقا منسيا بين المغرب وفرنسا، كانت مضامينه قوية وكشفت أن الأمير عبد القادر الجزائري كان يحترم سلطان المغرب ويظهر له الطاعة ويُقر بها، بل استقر في المغرب هربا من الجيش الفرنسي. لكن بحكم الضربة العسكرية التي تلقاها المغرب على يد فرنسا، بعد معركة إيسلي، وواقعة تهديد فرنسا بنشر قواتها في المحيط الأطلسي وضرب المدن المغربية، فقد كان مفروضا على المغرب أن يُبدي تعاونا مع فرنسا، لتجنيب المنطقة كارثة كانت بدون شك لتؤدي إلى الأسوأ.
جاء في نص الاتفاق الذي مثل فيه بن سلهام المغرب:
«فلما احتلت فرنسا بلاد الجزائر، وقام الجزائريون يدافعون عن أنفسهم ووطنهم وبايعوا الحاج عبد القادر، وأظهر هذا الأمير الطاعة لملك المغرب، توترت العلاقة بين المغرب وفرنسا وصارت الحكومة الفرنسية تنظر إلى ملك المغرب نظر العدو لعدوه، ونشبت فعلا بينهما معارك طاحنة، فهذه معركة
(إيسلي) جاءت هزيمة منكرة على المغاربة، وغداة الانهزام أطلقت البوارج الفرنسية قنابلها على مدينتي طنجة والصويرة، مما أدى إلى عقد صلح بين المغرب وفرنسا، وهذا الصلح يبدأ به التدخل الأوروبي الاقتصادي، فتنشأ المراكز التجارية ويتضعضع الاقتصاد الداخلي للبلاد. ويجمل بنا أن نذكر هنا شروط المعاهدة الني ترأسها السيد ابن سلهام بن علي أزطوط العرائشي، وهي تشتمل على ثمانية شروط:
-1 تفريق العساكر المجتمعين في الحدود، ولا يبقى بها أكثر من عدد ألفين.
-2 أن يعاقب الذين كانوا السبب في المخاصمات التي ارتكبها المغاربة في أرض الجزائر.
-3 الاعتراف بالتضامن الكلي، بحيث لا يمكن لسلطان المغرب أن يعاون أي أحد من رعية فرنسا الخارجين عن القانون في بلاد المغرب.
-4 أن ينفي الأمير عبد القادر من أرض المغرب.
-5 أن تحد الحدود تحديدا تاما منتظما بين البلدين.
-6 لا يبقى بين البلدين نزاع ولا قتال.
-7 الالتفات من طرف النواب على عقد شروط جديدة على وجه جميل، وأن تؤسس على الشروط السابقة المقررة.
-8 الوفاء الكامل بين الجانبين على هذه القوانين السالفة».
لا يمكن بتر هذا الكلام من سياقه، فقد أوردت الدراسة في إطار الاستشهاد بقوة الدبلوماسية المغربية وقتها، وهو ما يعني أن المغرب لم يجلس إلى الطاولة مع فرنسا في إطار موقف ضعف، وإنما في سلسلة من المحطات الدبلوماسية التي عرفت مدا وجزرا. ومن جملة ما جاء فيها:
«كتب السلطان لدولة إسبانيا، وأقر معها المعاهدة التي عقدها سفير المولى سليمان بن عثمان سنة 1813م. وهكذا ظل مولاي عبد الرحمان بن هشام في اتصال دائم مع الأوروبيين الأقوياء يتجنب ما أمكنه الحرب معهم، ولكن كما قلت سابقا رغم هذه الصلة الظاهرة كان المغرب سائرا في أزمة معنوية شديدة، نتيجة الفتن الداخلية والأطماع الاستعمارية منذ احتلال فرنسا للجزائر وانتصارها على المغاربة في موقعة (إيسلي)، وهذه الأزمة كانت نتيجة وقوع خلاف في أواخر أيامه مع الإسبانيين على حدود مدينة سبتة، وهذا الخلاف أدى إلى نشوب معارك طاحنة بينهما تكبد الفريقان فيها خسائر فادحة، وكان رحمه الله يريد أن ينهي ذلك بطرق المفاوضات، معتمدا في ذلك على الصداقة البريطانية، وقد أظهر نائبه الخطيب لباقة في تسوية هذا الخلاف، لكن مولاي عبد الرحمن مات قبل إنهاء القضية.
وتولى بعده ابنه المولى محمد، وأول شيء واجهه هو حل المشكلة العارضة بأي وجه كان، حيث أرسل الحاج محمد الزبدي الرباطي مندوبا جديدا لمباشرة القضية نفسها التي كان النائب الخطيب يباشرها، إلا أنه من المفهوم أن هذه المخابرات والمراسلات التي كانت جارية بين الدولتين، إنما كانت صورية فقط في نظر دولة إسبانيا، والأمر الذي كانت مصممة عليه، مهما كانت الأحوال، هو محاربة المغاربة واحتلال أراضيهم، وهكذا نجد دولة إسبانيا تستولي على مدينة تطوان فتقتل أهلها، وتنهب متاجرها وتخرب مساجدها وتقوم بأعمال منكرة، فكم من ذخائر، وكم من تحف وكم من كتب ومخطوطات وكم من وثائق ومستندات كلها ضاعت في أيدي الدولة العابثة الجانية، ولم يبق منها إلا الرماد والألم والحزن، فاضطر المغرب لهذه الخسائر الفادحة إلى أن يعقد الصلح مع إسبانيا. وتعهدت أخيرا بإخلاء تطوان تحت تأثير التدخل الإنجليزي».
كل هذه المعطيات تُظهر إلى أي حد كانت العلاقات الدبلوماسية المغربية مع دول أوروبا تمر بمد وجزر، كانت خلاله أسهم المغرب في بورصة السياسة تزداد قيمة مع تقدم السنوات، إلى أن تم توقيع معاهدة الحماية لإخضاع المغرب بطريقة تختلف تماما عن طرق احتلال الدول الأخرى.
+++++++++++++++++++++++++++++
وقت إبادتهم قبائل بالجزائر وتونس.. العُثمانيون أرسلوا هدايا إلى السعديين
عندما وقعت معركة وادي المخازن، أو واقعة الملوك الثلاثة كما يُسميها الإسبان والبرتغاليون سنة 1578، أصبحت السمعة الدبلوماسية للمغرب مدوية.
وهكذا فهم العثمانيون سريعا أنهم أمام بلد لا يمكن التعامل معه بالطريقة نفسها التي تعاملوا بها مع القبائل المنتشرة في ما عُرف بعدُ بالجزائر، ثم تونس أيضا.
وهكذا فقد أرسل مراد العثماني، إمبراطور تركيا وقتها، هدايا وُصفت بـ«الأسطورية» إلى الملك المنصور السعدي، للفوز بصداقته.
جل المؤرخين يربطون بين نتيجة معركة وادي المخازن، ورغبة الإمبراطور العثماني في ربط صداقة مع المغرب. إذ سبق له الاعتراف بالملك المغربي، لكنه عاد ليعترف به ويربط علاقات دبلوماسية معه، بعد المعركة. بل إن إسبانيا أيضا أرسلت هدايا في الفترة نفسها إلى المغرب، في الوقت ذاته الذي كان فيه العثمانيون يضربون بالحديد والنار في شمال إفريقيا، ويبسطون هيمنتهم على المنطقة.
حتى أن المنصور السعدي وقع في حرج نبهه إليه العلماء المغاربة والقضاة، عندما اعتبروا أن الإمبراطور العثماني مجرم حرب، يشن هجومه على الجيران. وهو ما جعل صداقة الملكين قصيرة الأمد، رغم الهدايا الثمينة التي أرسلها الإمبراطور إلى العاصمة السعدية.
الدبلوماسية المغربية وقتها لم تقتصر على صداقة العثمانيين، بل تجاوزتها إلى عقد اتفاقيات مع بريطانيا، أقوى دول العالم وأكثرها نفوذا.
لكن سقوط دولة السعديين جعل هذه الدول تراجع اتفاقياتها مع المغرب لفترة، بل إن إسبانيا والبرتغال تراجعتا عن اتفاقيات الصداقة، وعملتا معا على شن هجمات بحرية لاحتلال السواحل المغربية، قبل أن تستعيد هذه العلاقات الدبلوماسية «ألقها» مع المولى الرشيد، الذي حكم المغرب قبل المولى إسماعيل.
وبخصوص علاقة المولى الرشيد بأوروبا، خصوصا فرنسا التي سوف تكون علاقته معها تمهيدا لعقد اتفاقيات لاحقا بين البلدين، بعد وفاته، فإن المؤرخ الفرنسي «دوكاستري» كان أبرز من اشتغلوا على الوثائق والمراسلات بين المولى الرشيد والقصر الملكي في فرنسا.
ومن جملة ما جاء في التأريخ لهذه العلاقة بين المغرب وفرنسا، في بداية عهد المولى الرشيد، أن الملك الفرنسي «لويز» راسل مولاي رشيد سنة 1666 وطلب منه تفادي أخذ الأسرى بين البلدين والتفاهم دبلوماسيا، وصياغة اتفاقيات لتجنب أي مشاحنات في المستقبل.
أما علاقة المولى الرشيد مع الإنجليز، فحسب ما جاء في الأرشيف: «وفي سنة 1680 وجه ملك الإنجليز (كارلوس) سفيرا إلى المغرب اسمه (هاري هوارس)، وذلك ليهنئ السلطان بالانتصار، ومعه هدايا فاخرة، منها ستة مدافع نحاسية وعدة رماح».
ودولة فرنسا هي الأخرى راسلت ملك المغرب وأنشأت معه علاقات تجارية وغيرها، وقد أثبتنا في الأصل نقلا عن كتاب «الإتحاف» لابن زيدان رسالة كتبها السفير الفرنسي القبطان «رولان أفرجس» إلى السلطان، يطلب منه الإذن ببناء محل للتجارة بنواحي وادي أنكور، وإليك ما كتب: «إلى الشريف العظيم القوي مولاي رشيد حرسه الله، لما كان سبب مجيئي لهذه البلاد مهما جدا ومفيدا لدولتكم، أطلب من جلالتكم الإذن لي في القدوم على أعتابكم، وأن تسمحوا لي باللقاء بكم لأتشرف بشرح أسباب مجيئي لإيالتكم ولأسلم لكم كتابا من ملك فرنسا من مرسى البوزيم 5 أبريل عام 1666م».
وبالعودة إلى العثمانيين، فإنهم بقوا بعد مجيء الدولة العلوية، وانتهاء دولة السعديين التي عاملوها بكثير من الحذر، يراقبون الأوضاع في المغرب عن كثب، سيما وأنهم كانوا يعلمون أن موقف الدولة العلوية من حروب العثمانيين على إخوانهم في الجزائر وتونس وليبيا لن يتغير.
وفي عز رغبة فرنسا في دخول المنطقة عند تداعي الدولة العثمانية، كان المغرب سباقا إلى تقديم الدعم إلى القبائل التي سيطر عليها العثمانيون، وكانوا يعتبرونهم إخوانا لهم وجب تقديم المعونة إليهم، وهو ما جر على المغرب، أيام مولاي سليمان، متاعب كثيرة مع فرنسا.
المغرب تفاوض مع العثمانيين في الجزائر على الحدود سنة 1689
في الوقت الذي كان فيه المغرب يشهد انتقالا للسلطة من السعديين إلى العلويين، كانت المنطقة المغاربية تئن تحت الاحتلال العثماني. وهكذا كان العلويون، خصوصا أيام المولى إسماعيل، يرون أنهم مسؤولون عن الدفاع عن القبائل التي كانت تحت رحمة العثمانيين، إلى درجة أن المولى إسماعيل، عندما انتقلت إليه السلطة من المولى الرشيد، أرسل رسائل نارية إلى العثمانيين يستنكر فيها الجرائم التي مارستها جيوشهم في المنطقة. وفي الوقت نفسه، رحب برسائل الصداقة التي كانت تصله من فرنسا وبريطانيا، بل إنه رحب لأول مرة بمبعوثين أجانب. حدث هذا في الوقت ذاته، أي سنة 1689، حيث دخل المولى إسماعيل مع السلطان مصطفى العثماني في مفاوضات حول ترسيم الحدود المغربية.
وفي الوقت الذي كانت الاتفاقيات متبادلة بين المغرب ودول أوروبا، لم يتم التوصل إلى اتفاق مع العثمانيين، بل تشنجت العلاقات وصارت أكثر تعقيدا.
بعض القراءات التاريخية، غير المغربية، شككت في قدرات المغرب الدبلوماسية وقتها وقللت من شأنها. لكن ما ورد في نشرة «دعوة الحق»، التي تناولت أرشيف الخزانة الملكية كاملا، وعرضت نصوص الرسائل المتبادلة بين الدولة المغربية ودول أوروبا، نجد ما يلي:
«كما أنه من أكبر البراهين وأوضح الأدلة على ما كان بينه وبين ملوك أوروبا من اتصالات ومراسلات، هو ما جمعه وكتبه المؤرخ دوكاستري من الرسائل، التي تبودلت مع لويس الرابع عشر، ملك اسبانيا، وغيرهم من الملوك العظام، إلا أن علاقته مع لويس الرابع عشر كانت أقوى وأمتن، فاستحكمت إلى درجة أنه خطب ابنته الأميرة «كونتي» وكادت تتم هذه الخطوبة، لولا خوف الأمير من الحريم السلطاني الذي يضم مئات غيرها من حوريات الأنس.
ويعد السيد الحاج محمد تمم التطواني أول سفير من المولى إسماعيل إلى ملك فرنسا، الذي فاوض كلا من الوزيرين الفرنسيين «كولبير دو كراوسي» و«سنبلي»، وعقد معهما معاهدة تعرف بمعاهدة (29 يناير سنة 1682)، ولما قضى السفير نحو ثلاثة أشهر في فرنسا وعاد إلى المغرب، وأبلغ السلطان نتيجة سفارته، قام مولاي إسماعيل بمخاطبة لويس بما نصه: «اعلم أنه بلغنا أصحابنا صحبة كتابك وذكروا لنا خيرك ومباشرتك لهم، وشكروا لنا فعلك معهم واستحسنا بِرك بهم وفرحك بجميعهم، فلذاك ينبغي لك أن تكون».
كان عهد المولى إسماعيل يُنذر باقتراب موجة ضد المغرب، خصوصا وأن فرنسا بدأت تهتم بمنطقة الجزائر وتونس، مع بداية ضعف الدولة العثمانية. وهكذا كان قدوم الخطر نحو المغرب مسألة وقت فقط.
لماذا تأخر دخول فرنسا إلى المغرب 82 سنة؟
هذا السؤال طرحه مفكرون مغاربة وعرب، سيما في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما تناولوا أوضاع الدول الإسلامية التي وصلها الاستعمار.
ففي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يؤكدون أن علاقتهم بالمغرب علاقة دولة حامية بدولة أخرى، بحسب اتفاقيات، كان جل الوطنيين المغاربة يعتبرون وجود فرنسا في المغرب احتلالا مباشرا، لا فرق بينه وبين الاستعمار.
لكن لماذا تأخرت فرنسا كل هذه السنوات في احتلال المغرب، رغم أنها بسطت سيطرتها على المنطقة الحدودية منذ السنوات الأولى لاحتلال منطقة الجزائر سنة 1830؟
الجواب يبقى مركبا، خصوصا وأن المغرب وقتها كان يعيش فترة ازدهار دبلوماسي، رغم المشاكل الداخلية للمملكة. وهناك مؤرخون مغاربة يؤكدون أن مجهودات المولى إسماعيل، وبعده محمد بن عبد الله هي التي جنبت المغرب الوقوع تحت رحمة فرنسا بنفس سيناريو الجزائر. إذ إن الاتفاقيات، في عهد المولى الحسن الأول جنبت فعلا المغرب مخاطر التعرض لضربات عسكرية فرنسية، وبقيت المنافسة بين هذه الأخيرة وبريطانيا قائمة إلى حدود سنة 1906، بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، الذي أخلى الجو نسبيا أمام فرنسا للفوز بالمغرب.
ولم تكن هناك وسيلة أفضل أمام فرنسا من فرض معاهدة الحماية على المغرب، نظرا إلى أن الاستحواذ على البلاد عسكريا سوف يحتاج وقتا أطول، وهو ما لم تكن فرنسا تتوفر عليه.
عندما تم توقيع معاهدة الحماية، كان الغرض منها إخماد حالة «السيبة» التي دخلتها البلاد منذ أكثر من عشرين سنة، بسبب ظروف عدم الاستقرار السياسي. إذ إن المولى عبد الحفيظ الذي جاء به أنصاره من مراكش سنة 1908، وعلى رأسهم المدني الكلاوي، كان الهدف من مناصرته التصدي لفرنسا ومنع دخولها إلى المغرب. لكن ما وقع في أقل من عامين أن المدني الكلاوي أصبح صديقا لفرنسا، وأن نخبة الأعيان المغاربة جميعا حصلوا على حماية دول أجنبية، ولم تعد تسري عليهم القوانين المغربية، بما فيها استخلاص الضرائب منهم لصالح المخزن، وهو ما أضعف البلاد ومهد لتوقيع معاهدة الحماية سنة 1912.
لكن معارك فرنسا الحقيقية في المغرب لم تبدأ إلا بعد التوقيع على الاتفاقية، حيث وُوجهت بمقاومة كبيرة من طرف القبائل في الأطلس وأقصى الجنوب، وفي المنطقة الحدودية مع إسبانيا التي كانت هي الأخرى تكابد لاحتلال الشمال.
بعد قصف مدينة الدار البيضاء سنة 1907، لم تعد فرنسا تحتاج إلى مزيد من العمليات العسكرية من ذلك النوع، إذ إن القصف جيّش ضدها القبائل، خصوصا في دكالة والشاوية، بدل أن يُخضعها. وأصبح على فرنسا أن تواجه جبهات كثيرة فتحتها ضدها، وتحول وجود الفرنسيين في المغرب إلى خطر ضدهم، بعد أن كانوا يقيمون في مدينتي فاس وطنجة بدون مشاكل. وبدأت تُسجل حالات اعتداء على الأجانب منذ ذلك الوقت، وازدادت حدتها مع توغل فرنسا في المغرب باعتبار أنها دولة احتلال، وليس دولة صديقة تربطها بالمغرب معاهدة حماية.
مغاربة منسيون جنبوا البلاد حروبا بطرق دبلوماسية
هناك مبعوثون في عهد المولى إسماعيل والمولى سليمان، وعهد محمد الثالث أيضا، وصولا إلى المولى الحسن الأول، كلهم جنبوا المغرب حروبا طاحنة مع دول أوروبا. وبفضل حنكتهم، رغم أنهم لم يكونوا خبراء في الشؤون الدولية، فقد استطاعوا فعلا التوصل إلى اتفاقيات مع دول أوروبية، من بينها بريطانيا وفرنسا.
في عهد المولى الحسن الأول كان هناك باشا اسمه محمد الزبيدي، وتم إرساله سفيرا بضعة أسابيع إلى فرنسا. وهو الذي جنب المغرب دخول حرب مع فرنسا، بسبب الأوضاع في شمال إفريقيا.
كان المولى الحسن الأول يعتمد على الزبيدي لإنجاح المهمة، سيما وأن فرنسا سبق لها إرسال مبعوثين إلى المغرب حملوا رسائل تدعو إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، قبل أن تزداد الأوضاع سوءا.
ومن جملة ما حفظته مراسلات المغرب وفرنسا، وتنقيب مؤرخين مغاربة أبرزهم المؤرخ ابن زيدان، ما جاء في محاضرة تاريخية عن «العلاقات الدبلوماسية في عهد الدولة العلوية»، حيث تناول فيها إنجازات المولى الحسن الأول في هذا الباب:
«فكان السلطان الحسن الأول دائما يبعث الوفود إلى الحكومات الأوروبية، لتمتين عرى الصداقة بينها وبين المغرب، ومن ذلك إرساله للسيد محمد الزبيدي سفيرا وباشا دورا له إلى كل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإنجلترا، وأعطاه أموالا وهدايا فاخرة للعظماء وتأكيدها مع هذه الدول، وتقرير ما عنده من الاعتناء بجانبهم.
ولقد خرج هذا السفير المذكور إلى فرنسا أولا، حيث استقبلته الحكومة المحلية هناك استقبالا باهرا فأكرمته بكامل الاعتبار والإجلال، وتلقى المارشال (مكماهون)، رئيس الجمهورية الفرنسية، ووزير الخارجية المسيو (دوك داكاز)، الذي تفاوض معه بكل حفاوة ولطف.
ويقول المؤرخون إن دولة فرنسا هيأت له بعد سفره إلى بلجيكا قطارا خاصا وعربة تليق به، وصحبه في ذلك خليفة وزير الخارجية والترجمان، ولما أراد النهوض إلى مملكة اكريت هيأت له كذلك بابورا خاصا.
والتقى بالملكة الإنجليزية «فيكتوريا» وأجرى معها بواسطة وزيرها الأول محادثات ومفاوضات، وهذا كتاب من وزارة الخارجية الإنجليزية يشرح ما جرى من المفاوضات، نقتطف منه ما يلي: «يا جناب السفير إن حكومة جلالة ملكة إنجلترا قد أحلت محل الاعتبار رسالتكم المؤرخة بـ18 الجاري، فيما يخص حماية الحكومات الأجنبية لجملة المغاربة القائمين بوظائف السمسرة أو النيابة لدى التجار الأجانب، وردا على رسالتكم المشار إليها أشعر سعادتكم بأن حكومة جلالة الملك ليست لها رغبة في بسط هذه الحماية على المغاربة، إلا بمقتضى نصوص الفصل الثالث من الاتفاقية المبرمة بين بريطانيا والمغرب، في تاريخ 9 دجنبر 1856، وبمقتضى الفصل الرابع من الاتفاق التجاري والبحري الصادر في التاريخ المذكور نفسه».
هناك سفير آخر اسمه عبد المالك علي السعدي، وجهه المغرب إلى رئيس الوزراء سنة 1894، أي السنة التي توفي فيها السلطان الحسن الأول. وفي تلك السنة غادر أيضا كل من عبد السلام السوسي والحاج عبد الكريم بريشة إلى إسبانيا، لكي ينقلا رسالة المولى الحسن الأول إلى ملك إسبانيا. بينما انتقل الحاج بركاش إلى ألمانيا، لتقديم رسالة من السلطان. بل إن بلجيكا أرسلت رسالة إلى المغرب في عهد المولى الحسن الأول دائما، تعزي في وفاة قريب للسلطان، في وقت كانت تشن فيه حروبا ضد عدد من الدول الأخرى، وتنهج سياسة استعمارية توسعية.
هذه العلاقات الودية لدول أجنبية مع المغرب، كانت نتاج تلك السياسة التي بدأها المولى إسماعيل، وعمرت قرابة قرنين، قبل أن تتغير الأوضاع في العالم.