عندما رحلت فرنسا المغاربة إلى معسكرات العمل الشاق
خطة سرية كان الغرض منها إخلاء قرى مغربية خلال مرحلتين
يونس جنوحي
وضعت الخطة فوق مكتب المقيم العام ليوطي، الذي كان يفهم المغرب جيدا أكثر من بقية الضباط وكبار الجنرالات الآخرين. وتنبأ بفشل الفكرة بحكم أنه كان يعرف طبيعة الإنسان المغربي عموما، وصعوبة تأقلم القرويين في الجنوب مع الأجواء الباردة للمناطق التي كانت تعاني نقصا في اليد العاملة.
لكن التجارب اللاحقة، بعد انتهاء الحربين العالميتين، خصوصا في الجنوب الفرنسي، أعادت بقوة فكرة ترحيل مزارعين وقرويين مغاربة للعمل في الحقول الفرنسية واستثمار خبرتهم في الفلاحة والزراعة، إلى الواجهة.
ساهم منشور لباحث أكاديمي أمريكي، اسمه «أندروس» زار الجنوب المغربي سنة 1914، في فهم موظفي الإقامة العامة لعقلية سكان المنطقة الجنوبية في المغرب. وهو ما جعل الحكومة الفرنسية تلجأ إلى دول افريقية أخرى لجلب اليد العاملة إلى المصانع.
كان البحث يتمركز حول التنوع الثقافي في الجنوب المغربي، حتى أنه كان يضم ترجمات للتراث الأمازيغي وترجمة إلى الإنجليزية لأشهر الأغاني والأشعار التي شكلت هوية سكان المنطقة الجنوبية، التي لم تكن فرنسا تعرف عنها أي شيء. بالإضافة إلى نقل محادثات حميمية بينه وبين الأعيان، الذين طمعت فرنسا في صداقتهم لتسهيل استعمار المنطقة وإخضاعها عسكريا.
على خطى «فيليكس موغا»
ربما كان هذا الرجل صاحب الاسم أعلاه أشهر عسكري فرنسي هندس لعملية جلب العمال المغاربة نحو فرنسا. لكن سيرته، أو تجربته على الأرجح، كانت تحاكي فقط جانبا من الحقيقة الكبيرة لمشتل فكرة استغلال المغاربة للعمل في فرنسا، سواء بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية.
هذا الضابط الفرنسي «فيليكس موغا» اشتهر بعد الحرب العالمية الثانية في منطقة الجنوب المغربي، لأنه كان يبحث عن عمال مناسبين للمناجم الفرنسية، وأبرم عقودا كثيرا بتفويض من تلك الشركات مع شبان تلك المناطق الأشداء القادرين على العمل في ظروف قاسية، واستطاع بعد سنوات تكوين جيل من المهاجرين المغاربة هناك، الذين ظلوا أوفياء لأصولهم وعائلاتهم وواظبوا على الحوالات المالية من فرنسا إلى المغرب لإخراج قراهم من الفقر، وهو ما استمر إلى ما بعد حصول المغرب على الاستقلال.
لكن هناك ضباط فرنسيين سريين هندسوا لنوع آخر من الهجرة، كان الغرض منها أساسا إفراغ بعض المناطق الفلاحية من السكان وتوجيههم مع أسرهم نحو الجنوب الفرنسي للعمل في الحقول الفرنسية خلال مواسم الجني والحصاد، واستعمالهم بقية السنة في رعاية الأراضي والضيعات الفلاحية التي تعلموا أصول العمل بها في المغرب، عندما كان يستغلهم المعمرون الفرنسيون بها.
ومع وضع خطة ترحيلهم نحو فرنسا للعمل جماعيا في تلك الحقول والضيعات، نشب خلاف كبير بين مكونات الحكومة الفرنسية، لأن الخطة لم تكن مدروسة بما يكفي.
كل هذا يؤكد أمرا واحدا، أن فرنسا كانت تخطط في مناسبتين لإخلاء بعض المناطق المغربية من السكان لإنهاء مجموعة من القلاقل والتحديات الأمنية، وفي الوقت نفسه تكشف أن هناك مساع قديمة لدى الاستعمار في استعمال المغاربة في مخيمات خاصة معزولة عن بقية الفرنسيين لإنجاز الأشغال الشاقة، في ظروف لم تكن بالتأكيد ستحترم إنسانيتهم.
الفرق بين خطوة العسكري الفرنسي «موغا» وبين المخطط السري الذي وضع فوق مكتب إدارة المخابرات العسكرية الفرنسية يكمن في الظروف المصاحبة لعملية الترحيل نحو الحقول الفرنسية، التي كانت الحكومة الفرنسية ستشيد بقربها معسكرات خاصة لإيواء أولئك العمال وعائلاتهم، حتى يتسنى لهم الاستقرار المؤقت بجوار الحقول وليس الاختلاط مع الفرنسيين من سكان المنطقة الأصليين.
لقد كان القرار يرمي إلى تعويض النقص في اليد العاملة، دون أن يجني الجانب المغربي أي ربح معنوي من العملية. وليس كما وقع مع عمال العسكري «فيليكس»، الذي أسس النواة الأولى لشريحة اجتماعية مغربية في قلب فرنسا، لا تزال نواتها الأولى موجودة إلى اليوم رغم أن ثلاثة أجيال اليوم تشهد على وجودهم.
ترحيل المغاربة للعمل في حقول الفرنسيين لم يكن فكرة عبقرية، بحكم أنها ترددت في دول أخرى، لكن الذكاء الفرنسي كان يتمثل أساسا في طريقة استثمار الموضوع لخدمة أجندات خاصة كان مخططا أن يخرج الجميع رابحا منها، باستثناء الذين رُحلوا للعمل.
محمد الخامس رفض «استعباد» رعاياه في جنوب فرنسا وعارض المخطط
في الوقت الذي أبان فيه الأعيان المغاربة والمقدمون والشيوخ في المناطق المعزولة عن اندفاعهم لتطبيق المخطط الفرنسي في بعض المناطق جنوب المغرب، وتوفير لائحة من المُرحلين الذين كانت فرنسا تحتاجهم تزامنا مع الحرب العالمية الثانية لسد الخصاص في العمال والفلاحين، بشكل موسمي لجني المحاصيل، كان الملك الراحل محمد الخامس معارضا للفكرة.
وُضعت على مكتبه ورقة بالمقترح مصدرها الإقامة العامة الفرنسية، ورفض التوقيع عليها وعارض بشدة أن يتم ترحيل قرى مغربية بأكملها إلى فرنسا للعمل، وفق ظروف غير محددة سلفا، مما يجعل رعاياه عرضة للخطر والضياع وسوء الاستغلال.
كان الترحيل السري هو الطريقة الوحيدة لتحقيق الخطة الفرنسية، وبسبب المشاكل الكبيرة التي كان يعيشها المغرب، وضعف الإمكانيات وغياب وسائل الاتصال وعدم تنسيق وحدة الإدارة، كلها أسباب جعلت إمكانية التحايل سهلة للغاية. تماما مثل ما وقع مع ترحيل اليهود المغاربة، خصوصا خلال المراحل الأولى للترحيل أيام الملك الراحل محمد الخامس دائما. فقد كانت العمليات الأولى سرية للغاية. وحسب الأرشيف الرسمي للموساد، فإن فرقا من بلغاريا وبولونيا حلت بالمغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وقامت بإحصاء اليهود المغاربة بشكل سري في منطقة فاس والدار البيضاء على وجه الخصوص، ووضعت تصورا لترحيلهم. وغادرت اللجنة محملة بالمعلومات الضرورية لبداية هندسة الترحيل من المغرب.
السيناريو الذي تؤكده وثائق الموساد كان شبيها إلى حد ما بالسيناريو الذي أراد المعمرون الفرنسيون وضعه. وتجب الإشارة إلى أن هؤلاء المعمرين وجدوا صعوبات كبيرة في إقناع حكومة بلادهم وإدارتها العسكرية، بالإضافة إلى الإقامة العامة الفرنسية في المغرب بخطة اللجوء إلى سكان بعض القرى وترحيلهم إلى فرنسا لمباشرة الأعمال الزراعية والصناعية، خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى. أما في المحاولة الثانية، فقد كانت الحكومة الفرنسية تملك معطيات كافية عن السكان ومرت بتجربة اللجوء إلى المُرحلين السينغاليين، الذين استُعملوا لإنجاز أشغال شاقة أثناء إعادة بناء فرنسا بعد الحرب خلال عشرينات القرن الماضي.
كانت هناك أوساط فرنسية محافظة، رفضت اللجوء إلى اليد العاملة من المغرب، وظلت تطالب باللجوء إلى أصدقاء فرنسا في أوربا وإلى الجيش الذي كان يعيد بناء صفوفه بعد الحرب، خوفا من تبعات الهجرة نحو فرنسا وما يمكن أن تخلقه من تغيرات. لكن واقع الحال فرض أمورا أخرى على المسؤولين، ليتم اللجوء فعلا إلى العمال المغاربة، سواء بشكل سري أو بطريقة نظامية، كما وقع مع الجيل الأول من المغاربة الذين جاءت بهم فرنسا للعمل في المغرب ومولوا خلال بداية الخمسينات المقاومة المغربية للاستعمار، من مالهم الخاص الذي كانوا يتقاضونه كأجرة على العمل في المصانع الفرنسية، واستطاعوا بتلك الأموال شراء السلاح، بل وتوفير سيارات للمقاومة حتى يتحرك قادتها بشكل سري بين المدن.
من اقترح الترحيل الجماعي كحل لاستعمار المغرب المنسي؟
راجت فكرة ترحيل بعض سكان القرى في مناطق متفرقة من المغرب، خصوصا في الجنوب، ما بين سنوات 1940 و1945 على يد مهندسين عسكريين فرنسيين كانوا يأملون في استعمال اليد العاملة القروية في المناطق التي تأثرت بالحرب العالمية الثانية ورُحل رجالها القادرون على العمل إلى جبهات القتال. وهكذا اقترح على الحكومة الفرنسية أن تلجأ إلى المستعمرات القريبة، وعلى رأسها المغرب والجزائر، وتأتي ببعض الأفواج من سكان المناطق المعزولة، في إطار ترحيل جماعي لهم على أن يقيموا في مناطق معزولة قرب المعامل، ويتم استغلالهم، نساء ورجالا، بعد تدريبهم على العمل داخل تلك المصانع، لمواصلة عمليات الإنتاج دون أن تتأثر تلك المقاولات اقتصاديا بسبب الحرب.
بالنسبة إلى العسكريين فإن ترحيل «دواوير» بأكملها إلى فرنسا لم يكن عملية سهلة أبدا، خصوصا وأن إكراه المواجهات وعدم التحكم في الأمن المطلق بتلك المناطق حال دون تحقيق الخطة التي لم تتم الموافقة عليها بالإجماع لدى المسؤولين الفرنسيين في المغرب، لأن الذين اقترحوها لم يضعوا دراسة محكمة لمستقبل الآلاف الذين سوف يتم ترحيلهم إلى فرنسا للعمل.
كانت هناك تجربة فرنسية مع دولة السينغال، حيث تم استقدام آلاف العمال من القرى مرفوقين بنسائهم وأطفالهم للعمل في الحقول، بعد الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة مئات آلاف المزارعين الفرنسيين لتصاب الدولة بعجز حقيقي في اليد العاملة، وبقي وضعهم بعد الحرب محط نقاشات كبيرة، تستحق الآن أن يُفتح تحقيق بشأنها.
استحضر المسؤولون الفرنسيون في أربعينات القرن الماضي ما وقع في تجربة استقدام العمال بشكل جماعي من القرى الإفريقية نظرا لخبرتهم في الزراعة، والذين دافعوا عن إمكانية إعادة التجربة مع المغرب خلال الحرب العالمية الثانية، وليس بعدها، سبق لهم معاينة روح الإخلاص في العمل التي يتمتع بها القرويون في الجنوب وخبرتهم الكبيرة في الزراعة، خصوصا في مجال الحبوب والحوامض. الأجواء المناخية لمنطقة الجنوب المغربي كانت تشبه كثيرا مناخ المناطق الزراعية في الجنوب الفرنسي، خصوصا في الحدود مع إسبانيا. ولذلك رجحت كفة القرويين المغاربة كمرشحين أقوياء للمجيء إلى فرنسا للعمل في الزراعة وإنتاج الحليب.
تتوفر فرنسا بطبيعة الحال على خرائط يتم تحديثها دوريا للجنوب المغربي، بما فيها القرى التي لم تكن خاضعة لأي ثكنة عسكرية تابعة للإقامة العامة الفرنسية في الرباط.
هناك معطيات تاريخية أكدت تخطيط بعض الضباط الفرنسيين لترحيل مغاربة بعض المناطق المستعصية أمنيا على العسكريين، وتشجيعهم على ترك الحياة في المغرب والتوجه إلى أوربا، أو إكراههم لتقبل الأمر. لكن الذين اقترحوا الموضوع كانوا في الحقيقة لا يعرفون نفسية الإنسان المغربي، الذي كان يرفض بالمطلق الانفتاح على أوربا أو الرحيل إليها ولو من باب الزيارة. الأعيان المغاربة وحدهم من كانوا منفتحين على الحياة الأوربية ورغبوا في عيش بعض تفاصيلها داخل المغرب، اعتمادا على ما لديهم من أموال ومن باب تقليص بشاعة الإحساس بالنقص أمام الفرنسيين. وبعض هؤلاء الأثرياء والأعيان لم يرد في ذهنهم أبدا أن يقطعوا البحر في اتجاه فرنسا، بينما المحافظون كانوا يعتبرون كل من فكر في الأمر «آثما» تجب عليه التوبة من الذنب.
هكذا كان أمر إقناع المغاربة أو جزء منهم، بتجربة الرحيل نحو أوربا ولو لكي يتم استغلالهم بعد ذلك، ضربا من المستحيلات. لقد كانت خطة التعبئة فاشلة تماما. لذلك كان الحل العسكري هو الخيار الأخير، خصوصا وأن الفكرة سبق أن طرحت على مستوى القيادات وعُورضت أكثر من مرة.
مهندسو الرباط رفضوا مشروعا لترحيل 1200 مغربي سنة 1914 إلى فرنسا
قد يبدو الأمر في البداية مستحيل التصديق، لكنه وقع على كل حال، وتم اقتراحه في أسفل خيمة جنرال عسكري فرنسي احتار في أمر بعض سكان القرى في المنطقة الجنوبية الشرقية بين أكادير والرشيدية. لم تكن هناك طرق ولا مسالك للصلة بين المنطقتين، لكن امتداد تموقع بعض القبائل والقرى جعل الفرنسيين يفكرون منذ البداية في كسر الخط عبر إقامة ثكنات عسكرية كبيرة تودع فيها الأسلحة والفرق العسكرية لمراقبة تحركات آلاف السكان الرافضين للوجود الفرنسي في المغرب.
كانت فرنسا تعيش على إيقاع الحرب العالمية الأولى، وكان هناك إكراه شغور مناصب شغل كثيرة بسبب تجنيد الحكومة الفرنسية لجل الشبان والرجال القادرين على العمل وتوجيههم إلى الجيش، وهو ما ترك فراغا كبيرا في المناطق الحدودية مع ألمانيا وسويسرا. الاقتراح العسكري في الجنوب المغربي كان يرمي أساسا إلى إجبار بعض سكان القرى على الرحيل صوب فرنسا في إطار حراسة مشددة ويتم وضع المُرحلين في منطقة معزولة على شاكلة مخيمات يتم احتواؤهم فيها جميعا وتوجيههم وفق نفس الحراسة إلى المعامل الفرنسية الحكومية الأكثر تضررا من فقدان اليد العاملة بسبب المشاركة في الحرب العالمية، مع إخضاع هؤلاء المغاربة للمراقبة الدائمة إلى حين انتهاء مهمتهم وإعادتهم إلى المغرب.
وضعت الخطة فوق مكتب المقيم العام ليوطي، الذي كان يفهم المغرب جيدا أكثر من بقية الضباط وكبار الجنرالات الآخرين. وتنبأ بفشل الفكرة بحكم أنه كان يعرف طبيعة الإنسان المغربي عموما، وصعوبة تأقلم القرويين في الجنوب مع الأجواء الباردة للمناطق التي كانت تعاني نقصا في اليد العاملة.
لكن التجارب اللاحقة، بعد انتهاء الحربين العالميتين، خصوصا في الجنوب الفرنسي، أعادت بقوة فكرة ترحيل مزارعين وقرويين مغاربة للعمل في الحقول الفرنسية واستثمار خبرتهم في الفلاحة والزراعة، إلى الواجهة.
ساهم منشور لباحث أكاديمي أمريكي اسمه «أندروس» زار الجنوب المغربي سنة 1914، في فهم موظفي الإقامة العامة لعقلية سكان المنطقة الجنوبية في المغرب. وهو ما جعل الحكومة الفرنسية تلجأ إلى دول إفريقية أخرى لجلب اليد العاملة إلى المصانع.
كان البحث يتمركز حول التنوع الثقافي في الجنوب المغربي، حتى أنه كان يضم ترجمات للتراث الأمازيغي وترجمة إلى الإنجليزية لأشهر الأغاني والأشعار التي شكلت هوية سكان المنطقة الجنوبية، التي لم تكن فرنسا تعرف عنها أي شيء. بالإضافة إلى نقل محادثات حميمية بينه وبين الأعيان، الذين طمعت فرنسا في صداقتهم لتسهيل استعمار المنطقة وإخضاعها عسكريا.
يقول «أندروس» إنه اكتشف مغربا آخر غير الذي تعرف عليه في الشمال، حيث المنطقة الدولية. ويقول أيضا إنه التقى القياد والباشوات وتعرف على الأعيان في سوس، ولم يفته الإشارة إلى أن جل الجنوبيين كانوا ينظرون إليهم على أنهم خونة. ففي 1914 كانت الثورة ضد فرنسا لا تزال مستمرة في جبال الأطلس، باستثناء بعض القبائل التي كان يقودها قياد جشعون باعوا أنفسهم لفرنسا مقابل امتيازات «عائلية».
يقول «أندروس» إنه كان يحكي لأحد أبناء القياد عن الحياة الأمريكية، وطلب منه الأخير أن يبيعه نظاراته وعرض عليه مقابلا سخيا، وكان صعبا على «أندروس» أن يقنعه بأن النظارات التي يضعها طبية وأنه لا يستطيع التحرك بدونها. لكنه حكى له عن أطباء العيون في أوربا وأمريكا ونصحه بالذهاب إليهم ليصنعوا له نظارات مماثلة. وبدا ابن القايد مصدوما من فكرة سفره إلى أوربا أو أمريكا.
المثير أن هذه الرحلة التي قام بها «أندروس» في الجنوب المغربي، رغم أنها نقلت جوانب أليمة من معاناة السكان مع الجيش الفرنسي، إلا أنها لم تخل من طرافة. إذ أشار إلى أن بعض الأعيان كانوا مفتونين بموضة الأسنان الذهبية. وكانوا يتأملون أسنانه ويستفسرون إن كانت حقيقية بالفعل، أم أنها مصنوعة بالخارج. بدا له الأمر في البداية عاديا، لكن ما إن سأله عنها أشخاص كثيرون، حتى استغرب من الاهتمام الزائد بالأسنان. حتى أن أحد الأعيان كان يضع أسنانا ذهبية كثيرة العدد، ويتزعم قبيلة قضى الجوع على كل سكانها. وهو الأمر الذي يعكس كيف أن الأعيان، رغم إمساكهم بزمام السلطة، إلا أنهم كانوا يمارسون ديكتاتورية كبيرة، لا شك أنها بسبب عدم شعبيتهم في مناطق نفوذهم. والتفسير التاريخي لهذا التناقض، أن المخزن كان في مرات كثيرة يدعم بعض الأعيان لتمثيله لصرامتهم في جمع الضرائب، وكانت الدولة تمنحهم الشرعية التي يفتقرون إليها وسط القبيلة بسبب سوء علاقتهم مع السكان.
كانت النتيجة في الأخير رفض مقترح ترحيل الأسر المغربية في المنطقة المستهدفة، والتي كان عدد السكان بها لا يتجاوز في المجمل 1200 فرد، بحكم أن الإقامة العامة لم تقتنع بالموضوع لغياب دراسة شاملة لذلك الترحيل وأبعاده.
لعنة حقول «البرتقال».. الأشجار التي أخفت «الغابة»
الحقول المغربية التي أنشأها المعمرون الفرنسيون كانت موضوع سجال كبير في مغرب الاستقلال. وأول برلمان مغربي سنة 1963 ناقش بحدة مآل تلك الأراضي الخصبة، التي جهزها الفرنسيون بأحدث معدات الفلاحة واستعملوا عائداتها من الفواكه لإنعاش التصدير المغربي نحو فرنسا.
لجأ هؤلاء المعمرون منذ أربعينات القرن الماضي إلى اليد العاملة المغربية كخيار واحد، لضمان سير العمل في تلك الحقول الشاسعة التي استثمرت فيها فرنسا ملايين الفرنكات الفرنسية، ووقعت في مشاكل كثيرة بخصوص ملكية تلك الأراضي التي انتزعت من القبائل المغربية وفوتت بأحكام قضائية صادرة عن محاكم فرنسية في المغرب لصالح الفرنسيين.
وعندما حدثت أزمة في اليد العاملة الفرنسية بسبب الحرب العالمية، سواء الأولى أو الثانية، طُرح موضوع ترحيل بعض القرى المغربية التي عمل أفرادها بكل فئاتهم بمن فيهم الأطفال، في حقول المعمرين بأجرة يومية زهيدة. كانت المخابرات العسكرية الفرنسية تريد ضرب عصفورين بحجر واحد. من جهة سوف يزول قلق الإدارة بخصوص مطالب الملاكين القدامى باستعادة أراضيهم، ومن جهة أخرى سوف يتم استثمار ما تعلموه أثناء العمل في حقول المعمرين لكي يعيدوا تطبيقه في ضيعات الجنوب الفرنسي، دون أن يكلفوا المستثمرين الفرنسيين الكبار تكاليف إضافية لتكوينهم.
كانت الإقامة العامة الفرنسية تناصر الفكرة لسبب وحيد، خصوصا في ذلك السياق المشحون بالأحداث، ويتمثل السبب في إيمان الإقامة العامة أن ترحيل بعض السكان المغاربة بشكل جماعي من مناطقهم، سوف ينهي أزمة مواجهاتهم مع الجيش الفرنسي ويضع نقطة نهاية كبيرة، ويكتب نهاية فصول المقاومة في الجبال التي حاربت فرنسا ورفضت وجودها في المغرب.
أيام الرعب الأولى.. الخوف من الترحيل قبل 80 سنة
باتت خطة ترحيل المغاربة قسرا للعمل في الحقول الفرنسية أمرا مفروغا منه، بعد تأجيله خلال فترة الحرب العالمية الأولى ما بين سنوات 1914 و1918. ومع منتصف أربعينات القرن الماضي عادت الفكرة إلى الواجهة، بل وبقوة وإلحاح أكبر من السابق.
لأن الأمر يتعلق هذه المرة بفقدان فرنسا لملايين الشبان والرجال القادرين على ممارسة أنشطة الزراعة، والذين كانوا يشكلون نواة اليد العاملة الفرنسية في المناطق الفلاحية التي كانت معروفة بجودة الأراضي والمناخ، الذي يشبه كثيرا مناخ الجنوب المغربي الذي يساعد على إنجاح أنواع من الأنشطة الزراعية التي يملك المغاربة خبرة في تدبيرها.
استقدام يد عاملة من دول إفريقية اعتادت فرنسا على التعامل معها بتلك الطريقة لن يفيد، خصوصا وأن تلك الدول الإفريقية عاشت صعوبات كثيرة ومجاعات ولا خبرة لسكانها في الزراعات التي كانت مزدهرة في فرنسا.
اقترحت الفكرة على الإقامة العامة، لكن الأمر كان مرتبطا أساسا بالمخابرات العسكرية التي كانت تتابع مثل هذه المخططات وتطوراتها وتعد تقارير عنها بمعزل عن الإقامة العامة، التي كانت تتبع مباشرة للحكومة الفرنسية في باريس. أما المخابرات العسكرية فقد كانت تابعة للجناح الأمني السري للدولة، ولا يطلع عليه أفراد الحكومة ويرفع مباشرة إلى مكتب رئيس الجمهورية.
كانت الخطة تقضي بإجراء مسح شامل لمناطق قروية في الجنوب المغربي، خصوصا المناطق المحاذية لأجود الأراضي الزراعية، ومن ثمة ربط الاتصال مع الأعيان المغاربة لكي يرشحوا عددا كافيا من الرجال القادرين على ممارسة أنشطة قاسية في الزراعة، على أن يكونوا مؤهلين للإشراف على الحقول ومزاولة الأنشطة الزراعية باحتراف.
هنا كان يتمثل دور الأعيان ورجال السلطة المخزنيين الذين كانوا يشتغلون كمترجمين لصالح الجيش الفرنسي، لكي يرشحوا لائحة من المطلوبين للتهجير.
كان الأمر يتم بالإكراه، وتمت مداهمة أسواق أسبوعية وطوقت بشكل مفاجئ، بحكم أنها كانت تمثل تجمعا أسبوعيا لكل الرجال القادرين على العمل في تلك المناطق. وبحضور المقدمين وأعوان السلطة، يتم استدعاء من وقع عليهم الاختيار لركوب حافلات عسكرية تتجه بهم إلى مراكز لإجراء الفحوصات الضرورية قبل التأشير نهائيا على جاهزيتهم للترحيل.
والمثير أن هذه الشريحة لم تكن يوما موضوع أية دراسة سوسيولوجية فرنسية، رغم أن وثائق الأرشيف الفرنسي تشهد بوجود لوائح ترحيل بشكل مدروس سلفا مبني على مراسلات رسمية بين مسؤولين عسكريين ومشرفين على الأمن في المناطق المستهدفة.
وحسب الأرشيف دائما، فإن عدد المرحلين في البداية لم يتجاوز ألفي شخص كانوا جميعا قادرين على ممارسة الأنشطة الزراعية ولديهم خبرة في المشاركة في تدبير الضيعات الفلاحية، وبعضهم كانوا أجراء مياومين لدى فلاحين فرنسيين معمرين أقاموا في المغرب ولم يغادروا الضيعات الفلاحية، التي وفرها لهم المستعمر إلا في سنة 1956.
مصير الفلاحين المغاربة الذين رُحلوا للعمل في فرنسا لم يكن مجهولا، بحكم أن عددا منهم تمت إعادتهم إلى المغرب، بينما بقية أخرى تم استعمالهم في أشغال إعادة بناء باريس بعد القصف فور طرد الألمان من فرنسا، وتحولوا إلى مهاجرين شرعيين وعمال في المصانع، وشكلوا النواة الأولى للجيل الأول للمهاجرين المغاربة إلى فرنسا.