شوف تشوف

الرأيثقافة وفن

عندما تغير العالم

بقلم: خالص جلبي

 

في سلسلة «عالم المعرفة» كتب قيمة، وقد بلغت اليوم مع كتابة هذه الأسطر 497 عددا، وبالطبع فليس كل عدد يستهوي كل واحد، خاصة من عشاقي الثقافة أمثالي أو هكذا أزعم، لكن هناك كتب قرأتها أنا مرات إن لم يكن عشرين مرة، مثل «العلم في منظوره الجديد» والكتاب بالأصل عنوانه «قصة العلم الجديدة» رقمه 134، وهناك كتاب «بنو الإنسان» لبيتر فارب، وهو في علم الاجتماع وأعترف بأن هذا الكتاب مع الثلاثي من الكتب هو + «ميلاد مجتمع» لمالك بن نبي + «مقدمة ابن خلدون»، قد حلت لي مشكلة أخلاقية في فهم معنى المجتمع والظلم واليوم الآخر، وأضيف إلى هذه الكتب ما أنصح به بإلحاح للقراء كتاب «الذكاء العاطفي» لدانييل جولمان، و«ارتقاء الإنسان» لبرونوفسكي، و«الكون» لكارل ساغان، و«تكنولوجيا السلوك الإنساني» لسكينر، و«الإنسان وعلم النفس» لعبد الستار إبراهيم، وكتاب «تاريخ الطب»، و«إبداعات النار»، و«الأنثروبولوجيا»، و«الحضارة»، و«الإنسان الحائر بين العلم والخرافة»، وكتاب «رحلتي على شفا الحرب النووية» لويليام بري، و«الحرب والأخلاق» لديفيد فيشر. ومع مقالتي هذه أشير إلى كتاب هام، هو «عندما تغير العالم»، فقد جاء في هذا الكتاب «عندما تغير العالم» بقلم «جاك بيرج»، والذي نشرته الكويت في سلسلة «عالم المعرفة» (رقم 185ـ ترجمة ليلى الجبالي)، أنه في «عام 1630م بدأ راهب فرنسيسكاني يدعى «مارين ميرسين Marin Mersenne» في عقد اجتماع للمثقفين مرتين أسبوعيا، في صومعته بدير «بورت رويال». ويحكى عن «مارين ميرسين» أنه كان أعظم مراسل في القرن السابع عشر؛ فقد نجح في أن يجعل كل عالم مفكر ذي مكانة على صلة بأعمال غيره من المفكرين. وكان أي مفكر قد اعتاد حين يصل إلى باريس أن يتجه إلى الدير مرتين في الأسبوع، لحضور الاجتماعات والمشاركة في المناقشات الفلسفية والعلمية. وفي عام 1634م أصدر «ميرسين» كتابه المعروف بـ«المسائل Questions»، الذي وضع فيه أساس المدخل إلى البحث العلمي، والذي منع الإيطاليون استخدامه، وقد أرسى ميرسين في كتابه هذا ثلاث قواعد أساسية للبحث العلمي:

ـ أرفض كل ما يتعلق بسلطة سابقة.

ـ اتخذ من الملاحظة المباشرة والتجربة أساسا لجميع نتائج بحثك.

ـ ضع أساسا رياضيا لكل ما تفهمه من ظواهر الطبيعة».

ويذكر جاك بيرج لاحقا بعضا ممن واظب على الحضور، منهم رينيه ديكارت أحد فلاسفة التنوير، وكذلك غاليلو الإيطالي؛ بل واكتشف كل منهما أمورا عجيبة، ووصل إلى قوانين رياضية منها البندول عند غاليلي وقياس الزمن، ومنها الهندسة التحليلية عند ديكارت وهو يراقب طنين ذبابة في الاجتماع، فبدأ يتصور الحركة والزمن، لتنبثق في ذهنه محاور الهندسة التحليلية، وهو ما يعمل به علم الإحصاء وسواه في عالم المعرفة اليوم.

أنا شخصيا كنت متفائلا حين يتم استدعائي إلى مؤتمرات عالمية شتى في العالم العربي، ثم تساءلت ماذا تفيد مثل هذه اللقاءات وما ينتج عنها؟ وهل تستحق كل هذه النفقات من طيران درجة أولى للحاضرين، وفنادق خمس وسبع نجوم، وطعام فاخر لذيذ تحتار بين أصنافه إلى درجة التخمة إن لم تنتبه، ونوم ممتع في غرف من فوقها غرف مبنية تطل على البحر والشجر والمدر، وأجنبيات نصف عاريات في كل زاوية، وتزجية وقت لطيف في خريف يعمق الأحاسيس؟ ثم قلت في نفسي، هل يزيد المنتدى على تظاهرة وديكور وسلام على أمير ومسؤول، وتوظيف اللقاء لسمعة جريدة، مع الانتباه إلى مرور الأفكار الخطيرة أن لا تنشر وتعمم، أم يخفي خلفه هدفا استراتيجيا بعيد المدى؟ كما في عمل الكاهن ميرسين الذي ذكرناه، والذي أنتج مناخا عقليا جديدا في أوروبا. والجواب عن هذا بالقطع سيأتي به المستقبل، ولكن في الوقت الراهن أن تجتمع كوكبة من الكُتَّاب فتتحاور وتلقي الضوء على المشاكل الملحة، لتخلص الآراء إلى كلمة واحدة، أن الكل عنده رؤية من كرد وعجم ويهود وأمريكان وطليان وسود، ولا رؤية عند العرب، ولا جامع يجمعهم إلا الخلافات والحدود، مع أنهم ينطقون لغة واحدة ويصلون إلى كعبة واحدة، شاهدا على أن العقل العربي لم يولد بعد، وأن السياسي الكذاب غير المثقف هو الذي يلعب بمصائر العباد إلى يوم التناد. ومن أعجب ما رأيت يوما في زيارتي إلى الإمارات، أن جبالا من الرمال تحد الحدود بين دبي والشارقة، وهناك نقاط عبور للمارين على الأقدام، مذكرة بالحدود الإسرائيلية الفلسطينية، وهما قطعتان من الأرض في دولة واحدة اسمها الإمارات المتحدة. بل وقام صديقي نزار بأخذي إلى الموقع تماما، وكيف يصف الناس سياراتهم في الحدود بين الدولتين، ثم يعبرون للعمل من الشارقة إلى دولة دبي. نحن هنا لسنا أمام إمارات متحدة، بل دول منفصلة. ولا أدري إن كان هذا الواقع ما زال قائما، وقناعتي أنه لو زال فهناك عشرات من السدود يجب إزالتها لقوم لا يعقلون. هنا تذكرت الحدود الجزائرية المغربية، مثل سحاب البنطلون، فلا يمر قط ويعسوب ونملة ونحلة. وفي كل جهة مكتوب عاش عاش عاش عاش القائد، عاش الفريق، عاش الزعيم.

نافذة:

في عام 1634م أصدر «ميرسين» كتابه المعروف بـ«المسائل Questions» الذي وضع فيه أساس المدخل إلى البحث العلمي والذي منع الإيطاليون استخدامه

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى