يونس جنوحي
مر اليوم الوطني للمهاجر، في العاشر من غشت، دون أن ينتبه إليه أغلب المهاجرين المغاربة، الذين يقضي أغلبهم عطلة الصيف هذه الأيام في المغرب.
لكن قبله، مرت ذكرى أليمة راح ضحيتها 177 مهاجرا مغربيا بالضبط، وصارت قصتهم منسية بالكاد يعرفها قلة فقط من الناس.
يتعلق الأمر بحادث تحطم طائرة قرب مدينة أكادير فجر 3 غشت 1975، والذي كان يصادف يوم أحد.
هذه الطائرة، من نوع «بوينغ 707» بأربعة محركات، حصلت عليها الخطوط الملكية المغربية من نظيرتها الأردنية وقتها، تحطمت عندما اقتربت من مطار أكادير ولم يكن يفصلها عن الهبوط سوى دقائق قليلة، حيث كانت تحلق فجرا فوق القرى التي تقع شمال أكادير قبل أن تختفي تماما من على الرادار وينقطع الاتصال معها. فماذا وقع؟
كان 177 مهاجرا مغربيا، وأربعة سياح بريطانيين في مطار «لو بورجي» بباريس، ينتظرون أن تجهز الطائرة التابعة للخطوط الملكية المغربية، لكي تقلهم إلى مدينة أكادير. جاؤوا جميعا إلى المطار قبل منتصف ليلة السبت، 2 غشت، لكي يقضوا العطلة الصيفية بين عائلاتهم، وكان أغلبهم من سكان القرى التابعة لإقليم مدينة تارودانت. بينما كان السياح الأربعة يستعدون لقضاء عطلة صيفية في المغرب، كانت هي آخر رحلة في حياتهم.
جاء الطاقم الأردني الذي تسلمه المغرب مع الطائرة التي كانت مملوكة سابقا للخطوط الأردنية، حيث كان عددهم 7 أفراد يتوزعون بين الطيار ومساعده والمضيفات، وانطلقت الرحلة بشكل عادي، حيث غادرت باريس مع تمام الساعة الثانية صباحا و20 دقيقة.
عندما أصبحت الطائرة قريبة جدا من أكادير، ولم يكن ارتفاعها يتجاوز كيلومترا واحدا، اتصل الطيار الأردني مع برج المراقبة في أكادير يطلب إذنا بالهبوط مع تمام الساعة الرابعة صباحا و30 دقيقة، وحصل من الموظف المناوب على آخر تعديلات اتخاذ مسار وضعية الهبوط. لكن تفاجأ موظف برج المراقبة فور انتهاء اتصاله مع الربان، أن الطائرة اختفت من على الرادار.
توقف أحد المحركات، وهو ما جعل مهمة الربان للسيطرة على الطائرة صعبة للغاية، بالإضافة إلى أن الرؤية كانت منعدمة، إذ إن الوقت كان فجرا، بالإضافة إلى أن حالة الطقس لم تكن تسمح برؤية كافية بسبب هبوط الضباب، فارتطمت بأحد الوديان. هذه الرواية قدمتها موسوعة متخصصة في الكوارث الجوية، ولم تقدم أي مصدر أو تقرير استخلصتها منه.
لكن صحيفة «نيويورك تايمز» التي صدرت في اليوم الموالي وصنفت الحادث على أنه أسوأ كارثة جوية في العالم وقتها، أرجعت سبب الحادث إلى ارتطام الطائرة بجبل صغير على مقربة من أكادير، لم يستطع الطيار رؤيته، بسبب نزول ضباب كثيف جدا حجب الرؤية عن الطيار.
التفسير الأخير، بحسب الشهود الذين تحدثت إليهم «نيويورك تايمز» من السكان المحليين، كان واقعيا، إذ إن المنطقة ما زالت إلى اليوم تعرف هبوطا لضباب كثيف في الساعات الأولى من الصباح، وتكون معه الرؤية مستحيلة تماما.
كان أحد الرعاة المحليين، حسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية التي خصصت للحادث حيزا مهما في صدر صفحتها الأولى، يستعد لكي يخرج قطيع الماعز للرعي الصباحي، عندما سمع صوت محركات الطائرة، ليرفع رأسه إلى السماء ويرى الطائرة الضخمة، في مشهد مرعب، وهي تتجه مباشرة نحو الجبل لتتحول إلى كرة من النار. وهو ما أيقظ السكان المحليين واضطروا إلى المشي قرابة 19 كيلومترا من دوار «إمزيزن»، حيث وقع الاصطدام، وصولا إلى أقرب مركز للدرك الملكي.
لم يكن هناك ما يمكن إنقاذه، إلا أن السكان المحليين ظلوا يرددون روايات كثيرة، تحول على إثرها الراعي الذي كان أول من شاهد الارتطام إلى بطل قومي يتسابق الناس لكي يسمعوا منه القصة.
أعطى الملك الراحل الحسن الثاني تعليمات صارمة إلى المسؤولين، لكي يعتنوا بعائلات الضحايا، حيث صُرفت لهم تعويضات قانونية، حسب الأنظمة المعمول بها عالميا. وبقي سكان القرية لسنوات يرددون روايات غريبة عن حادث الطائرة، الذي صُنف في الكتاب السنوي الأمريكي للكوارث، حيث ردد بعضهم أن الركاب عندما أيقنوا أن طائرتهم سوف ترتطم لا محالة بالجبل، سارعوا إلى رمي جوازات سفرهم عبر النوافذ.
وطبعا، لا يمكن تصديق كلام مماثل، لأن نوافذ طائرة «البوينغ» لا يمكن أن تُفتح أبدا ولا تشبه نوافذ الحافلة. لكن، لماذا ركز هؤلاء القرويون البسطاء على مسألة جوازات السفر؟
الجواب يعرفه المهاجرون المغاربة جيدا، فجواز السفر أغلى ما يملكه المهاجر. إنه أشبه ببندقية الجندي، ووحده يعيده كل عام إلى أرض الوطن.
رحم الله الضحايا.. ذكراهم ما زالت راسخة في قلوب عائلاتهم، رغم أن الحادث نُسي وسقط من الذاكرة ولا أحد تحدث عنه نهائيا. أغلب القرويين الطيبين الذين هرعوا إلى الدرك وسط الظلام الحالك لإخبارهم بالواقعة قد ماتوا أيضا، وماتت معهم تلك الذكرى.