«لا بد أن الكولونيل الذي خط مذكراته عن الحرب في المغرب كان يجد صعوبة في استحضار كل الصور الدموية التي مرت أمامه، وهو يصدر الأوامر العسكرية لإبادة القرويين العزل. وحسب تقارير الجيش الفرنسي السرية، فإن الأمطار وحدها حالت دون احتراق قرى بأكملها نواحي منطقة الشاوية سنة 1914. إذ أعطيت الأوامر لإضرام النار في المنازل والخيام، رغم العلم المسبق لهؤلاء العسكريين أنها مأوى للنازحين وأغلبهم أطفال ونساء. ورغم ذلك فقد تم القضاء عليهم بالمدافع، عندما تدخلت الأمطار لإخماد النيران.
هذا ليس مشهدا من فيلم رعب. بل وقع فعلا في المغرب. أين كُتب هذا؟ لنتابع».
حين تعرض المغاربة لإبادة جماعية
أمام محكمة عسكرية أقيمت في سوق أسبوعي نواحي الشاوية. الرابع من نونبر سنة 1908، كان الحاكم العسكري الفرنسي يقلب في الأوراق التي أمامه قبل إصدار حكم نهائي في قضية عشرة مواطنين مغاربة كانوا يقفون أمامه بجلابيبهم المتسخة وعلامات التعذيب بادية عليهم.
مهلا، لم يكن وقتها في المغرب وجود لمخافر الشرطة الفرنسية. نحن نتحدث عن زمن ما قبل الحماية الفرنسية. التعذيب تم على أيدي مغاربة يمثلون وقتها السلطة المخزنية، التي كانت تتحكم فيها فرنسا مباشرة وليس الدولة المغربية. فقد كان هؤلاء منشقين تماما عن سلطة المولى يوسف، ولا يتلقون الأوامر إلا من الكولونيلات والجنرالات الفرنسيين، وكانوا يمارسون عمليات التعذيب على المعتقلين المغاربة. وهؤلاء المساكين ألقي عليهم القبض في عمليات الحملات العسكرية العنيفة، التي قامت بها فرنسا في منطقة الشاوية وهم متلبسون بحمل البنادق في وجه العساكر الفرنسيين.
كان التعذيب بهدف إجبارهم على الاعتراف أمام الحاكم العسكري وقاضي المحكمة العسكرية بارتكاب أفعال وعمليات عنيفة ضد الجيش الفرنسي، وهكذا تصبح المشنقة جاهزة.
لا يتردد القاضي كثيرا في اتخاذ القرار النهائي في الموضوع، والدليل أن جل المحاكمات كانت ترفع بسرعة بعد صدور الحكم وتنفيذه في أقل من يوم على صدوره، وفي مكان عام. لأن الهدف من كل تلك المحاكمات الصورية كان هو إخضاع المغاربة بالأساس، وثنيهم عن مواجهة الجيش الفرنسي أثناء توغله في منطقة الشاوية.
صدرت أحكام الإعدام في حق المحكومين العشرة ليس رميا بالرصاص، وإنما شنقا على بعد أمتار من السوق الأسبوعي.
هذا ليس مشهدا من فيلم عن زمن الكولنيالية الفرنسية في المغرب، ولا مشهدا من مسرحية عن ملاحم التاريخ العسكري لفرنسا. كل هذا مدون في تقرير للمحاكمة، وهناك تقارير أخرى توجد اليوم في أدراج الأرشيف الفرنسي، مطوية بهدوء رغم فداحة الأفعال التي تؤرخ لها ورغم دموية مضمونها.
لقد وقعت إعدامات كثيرة من هذا النوع، وفي قلب الأسواق الأسبوعية التي كانت تعتبر التجمع السكاني الأول والمفضل للمغاربة. كل هذا لاحتواء عمليات المواجهة التي يتعرض لها الجيش الفرنسي، أثناء توسعه في المغرب. استمر هذا الأمر إلى ما بعد توقيع معاهدة الحماية، بل إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. ولكم أن تتصوروا العدد الإجمالي للضحايا المغاربة، والذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم ولدوا في زمن الأزمة وتموقعوا تاريخيا في قلب الخطة التي رسمتها المؤسسة العسكرية الفرنسية لإحكام قبضتها على المغرب.
قياد قتلوا وأحرقت ممتلكاتهم ومسحوا من التاريخ لأنهم قاوموا فرنسا
سيكون صادما للكثيرين أن يعرفوا أن جل القياد المعروفة أسماؤهم اليوم في الساحة الوطنية، لا يمثلون إلا نسبة من مجمل الأسماء التي يجهل مصير بعضها إلى اليوم. ولولا الرواية الشفهية والأرشيف الرسمي للدولة المغربية، الذي يحتفظ بمراسلاتهم أو مراسيم تعيينهم من طرف القصر على المناطق التي كانوا يحكمونها، لربما بقيت سيرتهم مجهولة. زمن المحلات السلطانية الذي كتبه لويس أرنو، واحد من المراجع التاريخية النادرة التي وثقت لأسماء وعائلات مرت من السلطة وانقرضت.
ليست هناك أية مبالغة في توصيف الانقراض. فقد كانت الإبادات الجماعية التي باشرتها المؤسسة العسكرية الفرنسية في المغرب سببا في محو عدد من القرى والتجمعات السكانية من الخريطة، كما وقع نواحي الدار البيضاء وسطات وأيضا في منطقة الشاوية. أما في الجنوب، خصوصا منطقة الأطلس، فقد كانت ضراوة الحروب التي انكسرت عندها شوكة الفرنسيين لسنوات كافية لسحق بعض القرى، التي أبدت مقاومة وممانعة لسنوات قبل أن ترغم على الاستسلام بسبب قوة الترسانة العسكرية الفرنسية، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي خرج منها الفرنسيون بانتصار بفضل التحالفات، وهو ما أثر إيجابا على الأداء العسكري الفرنسي في المغرب.
لنعد إلى القياد المنقرضين وأحدهم كان يسمى «ولد مولاي رشيد» نسبة إلى أسرة من الشرفاء، الذين كانوا يحظون بمباركة الدولة، وتم تعيين أفراد الأسرة رسميا، سيما في فترة الحاجب باحماد لكي يمثلوا السلطات في منطقة نفوذهم نواحي الشاوية ويقطعوا الطريق أمام عائلات أخرى تنافس على المناصب نفسها.
كانت الإبادة التي تعرضت لها المنطقة، سواء ما بعد دجنبر 1907 أو في 1914، كافية لانقراض بعض الأسر خصوصا العائلات التي كانت على قدر من الثروة والأراضي والخيول. فهؤلاء كانوا هم المصدر الوحيد لتمويل عمليات التمرد والمقاومة ضد الفرنسيين. بسبب انهزام المغاربة في عدد من المواجهات بطريقة غير عادلة، كان مصير آلاف السكان هو الانقراض بمن فيهم الأطفال والنساء والعجائز. ومعهم انمحى وجود أسر كانت تملك أجود الأراضي، وهي الملكيات التي تم تفويتها لاحقا إلى المعمرين الفرنسيين.
نوع آخر من الإبادة تعرضت له وجوه السلطة المحلية كان سببه بعض الأعيان المغاربة، الذين فاوضوا الفرنسيين وقرروا في الأخير التحالف معهم للإطاحة بقياد وباشوات مولوا المقاومة، أو قادوا قبائلهم وقراهم لخوض حرب ضد الجيش الفرنسي فوق خيولهم. هذه الانقلابات أفرزت وجوه سلطة جديدة في المغرب، مع بداية عشرينات القرن الماضي. والنتيجة أن تاريخا بأكمله محي تماما من الذاكرة الجماعية، ليترك المجال لزمن القياد المتحالفين مع فرنسا، والذين وصل بعضهم في النهاية إلى المصير نفسه. فقد قام المحسوبون على المقاومة المسلحة بالانتقام من «الخونة»، بكثير من التحامل والبشاعة في تنفيذ عمليات الاغتيال. التفسير الوحيد لهذا الأمر أن ذلك الجيل الذي قاد عمليات الانتقام خلال الخمسينات نشأ في جو كان فيه الجميع يلوك مرارة ذكريات الاغتيالات، التي قادها هؤلاء للوصول إلى السلطة فوق جثث إخوانهم.