شوف تشوف

الرأي

عمن سأكتب..

جهاد بريكي

أجلس داخل قسم الإنعاش، أراقب منحنيات تعلو وأخرى تنخفض، دقات قلب مسرعة وأخرى منخفضة، والهلع يلتهمني كلما دق جرس إنذار ما.
شيخ منزعج يرغب بالخروج من هذا المكان الممل أحاول تليين دماغه الجافة بضرورة الصبر وأهمية التأني، خاصة مع قلب تعرض لجميع أنواع الحقن والوخز والخياطة. يقتنع لدقيقتين، ثم يعود لمطالبه كأني ما شرحت شيئا. لماذا يصبح الرجال كتلا من العناد المتصابي عند بلوغ الشيخوخة!؟ وبقربه شاب هادئ، بجسم يغلي، راض بقدره ينتظر المعجزة. اليوم يوم المرأة العالمي، عيدها، يوم حقوقها المنصوصة، ومناسبة يتمنى لنا فيها الرجال مزيدا من التحرر من سطوتهم. هل يجب أن أكتب شيئا عني، لا أعرف، أم عن حادة التي تعمل في المقهى المتعفن، تلك التي تبتسم لي دائما كل صباح، بدون سبب لا أدري هل ترى في شيئا يروقها أم أن أحمر شفاهي يجعلها تتذكر أنوثتها فتبتسم، أم أنها فقط اعتادت ابتسامة تمنح للجميع، لا أعلم لكني أظن أن ابتسامتها لي بالضبط مميزة، فيها كرم وود زائدان. حادة تعمل وحيدة وسط الرجال، رجال تناثرت أسنانهم بسبب الدخان، ولهم عيون كأنها القذائف. أتخيل حجم المضايقات التي تتعرض لها كل يوم، أتخيل ما الذي يمكن أن تسمعه كل يوم وأتخيل كيف تعود لبيتها كل يوم.
عمن سأكتب، عني، حقيقة لا أعرف. أم عن لطيفة، المريضة التي مازالت تتصل بي لتسألني عن حالي بدل أن أسألها عن حالها، تخاطبني بحبيبتي، دائما منذ أول يوم دخلت فيه المستشفى وبكت أمامي وهي تحكي عن زوج تنكر لها عندما علم بطبيعة مرضها. أتذكر جيدا ذلك اليوم، يومها استقبلتها مساء وحيدة، وهزيلة. بكت بحرقة ثم ابتسمت بقوة، تركتها متحججة بمريض آخر، وأغلقت الباب علي ثم بكيت، بكيت كأرملة عاقر، لم تتسلم فلسا واحدا من ميراث زوجها. أنظر للقمر يراقبني، وأبكي. توقفت حين سمعت أذان العشاء، تذكرت فروض اليوم كلها التي لم أؤدها بعد ثم شعرت بأني أبحث عن سبب ما، أي سبب لأبكي. لا يجدر بي البكاء الآن، يحب أن أصلي.
عمن سأكتب، عني، لا أعرف. أم عن سمية، قصة الحب التي جمعتها بزوج لطيف ومتطلب، كانت ترابط أمام المصلحة تنتظر استيقاظه بعد الجراحة، أمر عليهما فأجدها تمسك رأسه وتداعب شعره كطفل، كيف يمكن أن يتحول رجل بجسد ضخم وتقاطيع حادة لطفل بين يدي امرأة، حتى ملامحه كانت ملامح طفل بين يديها، حتى بكاؤه كان بكاء طفل. أربعون سنة من زواج طويل، أسأل نفسي كيف احتملا بعضهما البعض كل هذا الوقت، ألم يرغب أحدهما يوما ما بالهرب دون وجهة؟! والحصيلة كانت لا طفل، هو كان الزوج والطفل وهي أم له ولأهله وأصحابه.
عمن سأكتب، عني لا أعرف، أم عن فاطمة، شابة في مقتبل العمر، بعد زواج قاصر بكهل، قدرها كان حملا مستعصيا، ثم انفجار الرحم والمتانة، فاستئصال منبع الخصوبة وفقدان للأنوثة. كانت تجلس هائمة لا تتكلم، أقترب منها أواسيها فتبتسم لي على مضض، أشعر بأنها تحتقر مواساتي لها، كيف أواسيها وأنا كل همي حينها كان تنسيق ألوان ثيابي ونهاية بطل روايتي وامتحانات الجامعة. كانت تطلب شيئا واحدا لا غير، مجالسة والدها الذي كان يفترش الشارع ليلا وبلاط المستشفى نهارا حتى يبقى إلى جانبها !
سألتها مرة، أين زوجك!؟ لقد رحل! يومها فكرت، هل نحن النساء مجرد أرحام خصبة!؟
عمن سأحكي، عني لا أعرف، أم عن نجاة، فتاة في عمر الزهور تعمل كسالة، اعتدت منذ طفولتي أن تكون الكسالة امرأة في سن متقدم بجسم قوي، مجرد رؤيتها كانت تصيبني بالهلع. نجاة قصيرة القامة، وزنها لا يتجاوز الخمسين كيلوغراما، جميلة الوجه، كان يمكن أن تختار طرقا أخرى لجلب المال تتجنب فيها وقاحة بعض النسوة وتفاهاتهن وتعليقاتهن السامة ومقارنات تتعب الخاطر. تفرك جسدي بعناية، بالها شارد وخيالي شاطح، ما الذي جعلها في مكانها هذا وأنا في مكاني؟! لمَ لم تتح لها فرص كالتي أتيحت لي، أي عدالة سماوية سمحت بهذا. تنتهي وتسألني برقة، كيف تحبين الماء.. ساخنا أم دافئا قليلا!؟

ساخنا أرجوك، عله يذيب الثلج الذي يعتلي قلبي !
عمن سأكتب، عني، لا أعرف أم عن لمياء، صديقتي البرجوازية، كنت أتوقع أنها ستسافر إلى أمريكا لتلتحق بجامعة راقية هناك، لم تفعل، تزوجت ابن عمها، أثرياء من أصول معينة تفرض على الفتاة الزواج من داخل العائلة وفي سن معين. صديقتي تملك أموالًا لا حصر لها، تركب سيارة لا أحلم بها حتى، أميرة في قصر ذهبي تبكي كل يوم، فارغة، ضائعة، ابن عمها موجود وغائب. أخبرتني يوما أنها عادت لتكلم زميلا كان يدرس معنا، كان معجبا بها جدا.. تخبره عن معاناتها فيواسيها وينصحها ويخفف وجعها، سألتها هل توقف الأمر هنا؟ أجابت بنعم مهتزة، كانت تعني بها لا صريحة !
عمن سأكتب يا إلهي، ربما عن ضاوية، امرأة تجاوزت الخمسين تأتي لمساعدتنا في أشغال البيت من وقت لآخر، كانت تطلب مني كل مرة أن أشعل البخور في غرفتي حتى لا تصيبني صديقتي بالعين، كانت تطلب مني أن أختار بتأن زوجا جيدا، لا يهم شكله بحجم ما يهم جيبه، تحكي لي حكايات تسقطني أرضا من الضحك، زوجها كان خائنا، وهي تعرف، والعشيقة صديقة وجارة، سألتها كيف تتحملين ذلك. تخبرني بأنها تفهم شبق الرجال، شهوته عند الجارة ولا يمكن لشيء أن يمنعه، ولو حاولت ذلك ستفقده وتفقد تواجده في حياتها، سيقضي مأربه ويعود لها سالما غانما مشتاقا وبه لوعة. أضحك وفي القلب ذبحة.
عمن سأكتب، وهل يجب فعلا أن أكتب، لا أعرف، كل ما أعرفه الآن أني أتعافى، أطفو على سطح مشرق لا أدري عنه شيئا، لكنه سطح، لا اختناق فيه، أملأ رئتي بهواء نقي وأفتح روحي لعالم فسيح. أتعرف على الأنوثة الغاضبة في وعلى الذكورة المتخفية وراءها. أتشبث بذاكرتي رغم ندوبها، وأترك ورائي قصصا وحكايا تستحق أن تروى للمراهقات والعجائز، أخبئها بحرص. وأمضي !
عمن سأكتب الآن، عني، أو ربما عن يومنا العالمي، وعن الورود اليابسة التي توزعها الجمعيات ومكتب السكك الحديدية ، ربما لا يهم أساسا عمن سأكتب، فربما كل الأيام هي لنا، وما هذا اليوم سوى مؤامرة ضد بنات حواء لاستيلابهن واستهلاكهن كما أخبرنا ذات صباح بارد أستاذ الجغرافيا بيقين لا يأتيه الشك من أي جانب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى