شوف تشوف

الرأيالرئيسية

عملية السيد الأعلى

مع ساعات الفجر الأولى من يوم السادس من شهر يونيو من عام 1944 ميلادي، قام الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بإنزال ناجحٍ لأكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ الحديث، ولكن علينا أن نذكر من بطن التاريخ أن ثمة حملة حصلت في القرن الثالث عشر للميلاد تشبه حملة النورماندي، حين قام المغول بمحاولة الاستيلاء على اليابان برقم مهول من السفن وصل إلى 3200 سفينة، على ظهرها أمهر المقاتلين المغول بعدد بلغ 140 ألف مقاتل، بقيادة آركان عام 1281م، ولكنها منيت بالفشل بطريقة غريبة عرفت بظاهرة التايفون، حيث التهمهم البحر أو مايسمونها أيضا «الكاميكازي»، أي الريح الإلهية. وما يعلم جنود ربك إلا هو وماهي إلا ذكرى للبشر.

نزلت قوات أيزنهاور باسم السيد الأعلى (Over Lord) على الشاطئ الفرنسي في منطقة النورماندي، محمولة على ظهر 6800 سفينة حربية، ومساندة بـ6500 طائرة مقاتلة، في محاولة لاختراق ما عرف بجدار الأطلنطي الذي بناه النازيون، وبناء رأس جسر اندفعت منه 37 فرقة عسكرية وفي المؤخرة 1,5 مليون جندي أمريكي،

و1,7 مليون جندي بريطاني و175000 جندي كندي، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجنود المتطوعين من كل صقع، يحدو الجميع هدف واحد هو القضاء على النازية واستئصالها من الوجود. والآن ماذا تعني النورماندي (عملية السيد الأعلى =  OVERLORD)  لبانوراما الحرب العالمية الثانية؟ وما هو مدلول هزيمة النازية في التاريخ الإنساني؟ ما زلت أتذكر وأنا على طاولة الغداء، عندما كنت أتناقش أنا ورئيس الأطباء الأوبرأرتس (OBERARTZ) حول النازية. ومما تعرضنا له في ذلك اليوم حديثا عن الحزب الاشتراكي الوطني الألماني، الذي اشتهر لاحقا باسم الحزب (النازي)، فقال إنه بغض النظر عن الإيديولوجية النازية، فإن ألمانيا استفادت الكثير من إنجازات هتلر. قلت له يا سيد مونز: إن الإيديولوجية النازية كانت للرايخ الثالث بمثابة الروح من الجسد، أو النواة من الخلية، فهل يبقى جسد بعد سحب الروح، أو تبقى خلية بعد عزل النواة منها؟ وأهمية النقاش الذي دار بيننا، أنه مرض (إنساني خطير) يجب أن نسلط عليه الضوء، فهو مرض غير خاص بالألمان، بل هو مرض قابل أن تسقط فيه أية أمة، تحت قيادة تجمع بين الفعالية والتعصب والعمى التاريخي. وعندما كنت شابا يافعا وقع تحت يدي كتاب «كفاحي» لهتلر، ولم أقدر شحنة السم الرهيبة التي يحتويها هذا الكتاب آنذاك، فقرأته بشغف وحملت إعجابا داخليا لهتلر والشعب الألماني، حتى وعيت واستوعبت لاحقا ومن خلال رحلة مليئة بالألم ما هي النازية؟ من هو هتلر؟ لأن هتلر ليس بدنا فيزيزلوجيا، بل فكرا ينتشر، وروحا تتفشى، واتجاها يُغَذى، وميولا عدوانية رهيبة تحمل كل بذور الشر والفناء في طياتها. وعندما دخلت ألمانيا مطلع عام 1975 ميلادي، جلست في أحد مطاعم مدينة نورمبرغ أتأمل وجوه الناس، وأقول ها هي مدينة نورمبرغ التي كانت طوابير الفرق النازية تمشي بصفوف لانهائية عبر الظلام، تضيء بهيم الليل بالمشاعل، والتي سوف تضيء بقنابلها لاحقا كل عواصم العالم المهمة، وهي تنشد: «ألمانيا فوق الجميع». وحتى يمكن إذن فهم السرطان النازي، وحتى نفهم تشريح التركيب الكروموزومي عنده، لا بد من تسجيل النقاط التالية:

(أولا): تقوم الفكرة النازية، وكل فكرة عنصرية مشابهة على أن البشر لم يُخلقوا من نفس واحدة،  بل خلق قسم منهم (وضيع)، والآخر (متفوق) بطبيعته البيولوجية، ويعتبر العرق (الآري) من أرفع الأجناس التي أنجبتها الطبيعة.

(ثانيا): هذا التفوق (العرقي) ولحساب العرق الآري الجرماني يقود إلى (خصوصية) في التعامل مع الشعوب الأخرى بـ(إلغائها)، وبذا تولدت الفكرة السرطانية الثانية المعروفة بـ(المجال الحيوي)، وهذا يترجم على أرض الواقع عمليا، بتفريغ شعوب بأكملها من أراضيها. هكذا كانت تنص تعليمات (القائد = الفورر). أو بناء مصانع رهيبة للموت الجماعي، كان أشهرها «أوشفيتس» في مكان نائي تم اختياره بعناية في جنوب بولندا بعيدا عن الرأي العالمي، غرب مدينة «كراكاو» البولندية بــ60 كيلومترا. حيث كان يتم إدخال المعتقلين السياسيين، أو من تقع عليه قرعة (نظرية المجال الحيوي)، فيتم التخلص منه، حسب انتمائه الطائفي أو العرقي. وتدخل تحت قائمة هذه الشعوب الوضيعة أسماء كثيرة من (الغجر) و(اليهود) و(السود)، ولا تستثنينا نحن (العرب) من هذه القائمة!

(ثالثا): إذا علمنا الجو (الاستعماري) الذي ولدت فيه الفكرة النازية، أمكن لنا أن نستوعب ظروف الصراع هذه بشكل أفضل. حيث بلجيكا تبتلع وسط إفريقيا الكونغو، وإيطاليا تزدرد الحبشة، وفرنسا تقضم الشمال الإفريقي، وبريطانيا تتسلل بخفة ودبلوماسية، لتضع يدها على مضايق العالم كلها تقريبا، السويس وعدن وجبل طارق. وأما هولندا البلد الذي لا يكاد يرى في الخريطة، فإنه رَكِبَ على رقبة البلد ذي الخمسة آلاف جزيرة (أندونيسيا)! في مثل هذا الجو من التنافس والتهارش الاستعماري لصيد الفرائس والطرائد، يبقى لألمانيا فقط دفع تعويضات الحرب وخسارة الأراضي، وهي من فصيلة الجنس الأبيض الراقي صاحب الامتيازات! وفي جو الإحباط وهزيمة الحرب العامة الأولى والتضخم النقدي والبطالة المتفشية والانهيار المالي والفوضى السياسية وذل معاهدة فرساي وخسارة الأراضي، يأتي هتلر على موعد مع القدر.  

خالص جلبي
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى