عمداء الدار البيضاء الأولون
بين الأعيان والسياسيين تشعبت خيوط مسار تدبير أكبر مدينة بالمغرب
حسن البصري
قبل أن يحصل المغرب على استقلاله، كان باشا المدينة يجمع بين يديه سلطات إدارية وسياسية واقتصادية وأمنية، فيما كان الشأن العام المحلي ورهان التنمية موكولين لرجال الحماية الفرنسية، الذين كانوا يمارسون مهام تدبير الشأن الجماعي في مكاتب رؤساء المصالح البلدية، لذا كان كثير من هؤلاء المهندسين الأجانب يملكون خيوط تحويل مدينة تقليدية إلى حاضرة.
صحيح أن تدبير الشأن الترابي يعد أحد أهم مظاهر اللامركزية في بعدها «الحكاماتي»، إذ يخول بمقتضى مجموعة من الضوابط القانونية لكل جماعة ترابية في حدود اختصاصاتها سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولتها ومقررتها طبقا لأحكام القوانين التنظيمية والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه.
لكن القائمين على تدبير مرافق جماعة مدينة، من حجم الدار البيضاء، يعلمون جيدا أن المهمة اليوم أقل عناء من زمن كانت فيه العاصمة الاقتصادية بلدية يمتد مجالها الترابي إلى مدينة بني ملال، الآن وفي زمن تعدد التنظيمات الترابية وعهد الشرطة الإدارية وشركات التنمية الجماعية أصبح التدبير أقل عناء وأكثر تطورا، مقابل ربط المسؤولية بالمحاسبة.
الآن، وفي غمرة الانشغال بتكوين المجالس وما رافقها من استنفار، لا بأس أن نتوقف عند حمى انتخاب مكتب المجلس الجماعي للدار البيضاء، خاصة بعد أن حصلت سيدة لأول مرة على صفة «عمدة» في شخص نبيلة الرميلي. ونعود بالذاكرة إلى زمن بالأبيض والأسود، كان فيه كرسي رئاسة مجلس جماعة الدار البيضاء حكرا على الوجهاء.
في الملف الأسبوعي لـ«الأخبار»، سنستحضر أسماء نالت شرف رئاسة المجلس الجماعي لأكبر مدينة في المغرب، وسنتوقف عند مسار وجوه من عوالم السياسة والمال والأعمال والرياضة، ساهموا في التدبير الترابي بالرغم مما تعتريه من صعوبات، وقدموا لوطنهم كل ما في جعبتهم لتحقيق مطامح الساكنة، كل حسب موقعه ومكانته وظروف اشتغاله.
تبقى الإشارة إلى ارتفاع عدد الجماعات الترابية بالدار البيضاء من سنة لأخرى، فقد بلغت 14 جماعة سنة 1983 وانتهى بوحدة المدينة سنة 2003.
المعطي بوعبيد أول رئيس للمجلس الجماعي للدار البيضاء
في 29 ماي 1960، أي قبل وفاة الملك محمد الخامس بحوالي ثمانية أشهر، خاض المغرب أول تجربة «ديمقراطية»، حيث نظمت أول انتخابات بلدية وقروية، وانتهت بهيمنة حزب الاستقلال الذي أحرز على 78 في المائة من المقاعد، في ظرفية عصيبة، لكن الداخلية قالت إن نسبة المشاركة فاقت 70 في المائة، وقد تم تبني نمط الاقتراع الأحادي الاسمي، وفقا لمقتضيات قانون الانتخابات المحلية الصادر بمقتضى الظهير الشريف الصادر في فاتح شتنبر 1959، وكذا ظهير 2 دجنبر عام 1959 المتعلق بالتقسيم الإداري للمملكة، والذي رسم الحدود الترابية للجماعات المحلية الحضرية والقروية على حد سواء.
تولى المعطي بوعبيد رئاسة بلدية الدار البيضاء، وراهن على انتمائه لدرب مارتيني في عمق درب السلطان، وعلى صفته كلاعب وضلوعه في المجال القانوني، فضلا عن مناصبه القيادية في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن يتأبط مجموعة من الحقائب الوزارية ويصل إلى قمة المناصب الحكومية، حين جمع بين وزارتي العدل والوزارة الأولى، فضلا عن مناصبه السياسية كأمين عام للاتحاد الدستوري في مراحل لاحقة، ناهيك عن مسؤوليات أخرى، خاصة رئاسته لفريق الرجاء الرياضي.
في علاقته بالسياسة، وبعد انتخابه برلمانيا ورئيسا لبلدية الدار البيضاء، ظل المعطي يحظى لولايات برلمانية عديدة، بثقة سكان دائرة الدرب الجديد بالبيضاء. لكن الرجل كان يحظى بثقة الملك الحسن الثاني، سيما وأنه تزوج من فتاة مقربة من القصر الملكي تدعى لبابة، درست في المدرسة المولوية مع الأميرات، بعدما اختارها محمد الخامس رحمه الله، وكانت «صلة وصل بين المعطي وبين المرحوم الحسن الثاني».
لم يكن المعطي بوعبيد بعيدا عن هموم السكان، فقد كان قريبا من ساكنة المدينة القديمة ودرب السلطان، حيث قضى فترات من حياته بين هذين الحيين، ناهيك عن شخصية منفتحة مقبلة على الحياة الدراسية، والكرة والشغل والمسرح.
رغم أن العمر الافتراضي للولاية الجماعية لم يكن يتجاوز ثلاث سنوات، إلا أن المعطي أصر على خوض التجربة متسلحا برصيده السياسي، وهو الذي التحق مبكرا بالعمل السياسي والنقابي، رافعا شعار العدالة الاجتماعية في حملته الانتخابية، معتمدا على رصيده القانوني الذي يتميز بتكريس سيادة القانون على أساس المساواة وحرية التعبير والديمقراطية والشرعية بين المواطنين، وهو أول من أسس تنظيما نقابيا لموظفي ومستخدمي البلدية.
على امتداد فترة ولايته المحددة في ثلاث سنوات، ظل المعطي يتمتع بثقة أهالي الدرب الجديد في دائرة الحي الحسني خلال الانتخابات التشريعية، حيث كان نائبا عنهم في مجلس النواب، في جميع الولايات التشريعية المتعاقبة حتى وفاته.
عبد الهادي بوطالب يفوض شؤون الجماعة لرئيس الوداد
في الولاية الثانية لعمر المجلس الجماعي، تقرر الانتقال من ثلاث سنوات إلى ست سنوات، لمنح المنتخبين مدة زمنية أطول لتنفيذ مخططاتهم التنموية. وحين انتخب عبد الهادي بوطالب رئيسا لبلدية الدار البيضاء، تأكد للساكنة أن كرسي جماعة الدار البيضاء لا يجلس عليه إلا الراسخون في العلم.
لم يكن عبد الهادي بوطالب يظن أنه سيجلس على كرسي جماعة الدار البيضاء، فقبل انتخابات 1963 كان الرجل يشغل منصب سفير للمملكة في سوريا، قبل أن يحصل انقلاب عسكري غير النظام، فعاد عبد الهادي إلى المغرب، حيث عينه الحسن الثاني وزيرا للإعلام، وظل يرافقه في كثير من رحلاته.
صحيح أن الرجل تدرج في بداية تعاطيه للسياسة من حزب الاستقلال ومنه إلى الشورى والاستقلال، قبل أن يعبر نحو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصحيح أيضا أنه تفاعل عن بعد مع دستور 1962، أول دستور للمملكة بعد الاستقلال، إلا أن عبد الهادي ظل وفيا لمبادئه، مؤكدا حين انتخابه رئيسا للمجلس الجماعي للدار البيضاء على أهمية الاستناد إلى روح القانون، وفتح الباب أمام المبادرات.
ولأن التزاماته الحكومية لا تتيح له فرصة الحضور اليومي إلى مقر الجماعة، إلا أنه حرص على تتبع الملفات الكبرى، وتفويض أكثر من اختصاص لفريق عمله، بعد أن ذوب في أول اجتماع كل التكتلات الحزبية. يروي عبد الهادي بوطالب في كتابه «نصف قرن من السياسة»، مجموعة من إكراهات العمل الجمعوي، ويرصد تفاصيل التماسه من الملك الراحل الحسن الثاني إعفاءه من رئاسة البرلمان.
فكر عبد الهادي في الاستقالة من منصبه السياسي، كرئيس للجماعة، كما قرر سحب ترشيحه لرئاسة البرلمان للسنة الموالية، وأبلغ الملك الحسن الثاني بالقرار فلم يتقبله، بل إنه أرسل مولاي حفيظ العلوي لاستفسار المستقيل عن دواعي القرار، دون أن يفلح في ثنيه عن رغبة الابتعاد عن كرسي الرئاسة، بعد أن شعر بقرب حل هذه المؤسسة من طرف الملك.
شاءت الصدف أن يعيش بوطالب وهو على رأس مجلس أكبر مدينة، حالات إنهاك حقيقية في مغرب دخل حينها حرب الرمال، وأضحى عبد الهادي مرابطا في خلية الأزمة، مفوضا شؤون الجماعة الترابية لشخصية فذة اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، ويتعلق الأمر برفيق دربه في حزب الشورى والاستقلال، محمد بن جلون.
كان «شوكولا»، وهذا هو لقبه، هو النائب الأول للرئيس عبد الهادي بوطالب، وبحكم أن هذا الأخير كان وزيرا للإعلام، فإن بن جلون هو من يترأس المجلس، ويوقع بالتفويض على قراراته، بل إن كثيرا من الاجتماعات عقدت في بيت مؤسس فريق الوداد الرياضي تحضيرا لقرارات تهم المدينة، خاصة خلال إضراب تلاميذ الدار البيضاء.
الزموري.. ولد بتيداس وانتخب رئيسا لجماعة الدار البيضاء وبرلمانيا بكلميم
اسمه الحقيقي حسن الغجيشي لكن اسمه «الحركي» هو حسن الزموري. شغل العديد من المناصب الهامة في هرم السلطة وفي الهيئات الدستورية المنتخبة، ينحدر من جنوب المغرب في قرية صغيرة تدعى تيمولاي لالة ملوكة، التابعة إداريا لقيادة تغجيجت.
قصة نجاح هذا الفتى بدأت حين تحالف القحط والمرض والاستعمار على البلد، فقرر أفراد الأسرة شد الرحال إلى وسط المملكة بحثا عن لقمة العيش، واستقروا بمنطقة زمور، حيث كان والد «الزموري» فقيها «مشارط» في تيداس، وهناك تزوج الفقيه من بنت أحد أعيان زمور، أيام الحماية الفرنسية، فازداد حسن سنة 1930 وترعرع وأدخله خاله إلى المدرسة الحديثة. وتجمع الكتابات التي نبشت في سيرة ابن تيداس، الذي سيصبح عمدة الدار البيضاء، على أن الولد كان نجيبا ومجدا في دراسته، فحصل على شهادة البكالوريا، مما أهله للدراسة في فرنسا، وهناك اكتسب حس القيادة وأضحى رئيسا لبعثة الطلبة المغاربة بفرنسا، وكان من أعضاء الوفد الذي استقبل الملك الراحل محمد الخامس حين زار فرنسا.
وهو في ديار الغربة تزوج حسن من فرنسية، وقرر الاستقرار في الدار البيضاء، عقب تعيينه رئيسا للغرفة الصناعية والتجارية للمدينة، وظل مقيما فيها إلى أن وافته المنية. ونظرا لارتباطه الوجداني وتجربته في وزارة الداخلية على رأس قسم الشؤون البلدية والجماعية، فقد نال شرف رئاسة المجلس الجماعي للعاصمة الاقتصادية، بعد أن ترشح للانتخابات الجماعية والتشريعية دون انتماء حزبي (لا منتمي)، وحمل اللون الأبيض وفاز بالدائرة الانتخابية بتقدير جيد جدا، وقد شغل قيد حياته أربع حقائب وزارية هامة، كالسكنى والفلاحة والتجارة والصناعة، وظل يحمل لقب «الزموري» بسبب ارتباطه بمنطقة زمور. ونظرا لمهامه الكثيرة، فقد فوض تدبير شؤون المدينة لرجل الأعمال العربي السقاط، الذي كان بمثابة رئيس فعلي للجماعة، مع خط مفتوح يوميا مع الوزير الزموري.
وخلال الانتخابات التشريعية لعام 1978 عاش الزموري تجربة انتخابية في مسقط رأس والده بدائرة تغجيجت، وعرفت حملته الانتخابية حدثا فريدا، حيث حل بالمنطقة عبر طائرة هليكوبتر ونزل بها في تيمولاي، وأمر ببناء الصهريج الموجود حاليا هناك.
امتدت ولاية الزموري على رأس جماعة الدار البيضاء سبع سنوات، إذ كان من المقرر أن تنتهي عام 1975، إلا أن ملك البلاد مددها بعام واحد بسبب التعبئة للمسيرة الخضراء، بعد أن تحقق الإجماع حول مشكلة استرجاع المغرب لوحدته الترابية، فتجاوزت الأحزاب السياسية جميع خلافاتها حول من سيحكم، وأعلنت عن رغبتها في التصدي للمستعمر. في هذه الظرفية جاءت الانتخابات التي أجريت يوم 12 نونبر 1976، وشاركت في هذه الانتخابات أحزاب المعارضة التي كانت تقاطع الانتخابات.
بليوط بوشنتوف يقود أول تجربة للمجموعة الحضرية
حرصا على نزاهة الانتخابات تم إحداث المجلس الوطني، وذلك برئاسة الملك الحسن الثاني، وكان ذلك في أوائل شهر أكتوبر 1976، وأنيط به اختصاص السهر على حسن سير العمليات الانتخابية، التي عرفت تقسيم الدار البيضاء إلى جماعات، انتخب على رأس كل واحدة منها رئيس، مع انتخاب رئيس للمجلس الجماعي للمدينة التي كانت واسعة الأطراف.
تم تقسيم الدار البيضاء إلى جماعات في سياق تقطيع انتخابي جديد، وعرف اقتراع 12 نونبر 1976 تنظيم الانتخابات الجماعية، في إطار الميثاق الجماعي الجديد لسنة 1976. شاركت في هذه الانتخابات أحزاب المعارضة، التي كانت تقاطع الانتخابات، وبلغت نسبة المشاركة 66,3 في المائة.
وأصبحت للعاصمة الاقتصادية مجالس حضرية فرعية: جماعة عين الذئاب برئاسة مصطفى القرشاوي، وناجم أبا عقيل على رأس جماعة عين الشق الحي الحسني، وعبد الرزاق أفيلال رئيسا لجماعة عين السبع، بينما جلس بليوط بوشنتوف على كرسي جماعة الفداء مرس السلطان، قبل انتخابه رئيسا للمجموعة الحضرية، في أول تجربة تدبير يمنح لجماعات أخرى حق تدبير القرب.
كان بليوط بوشنتوف رجل أعمال وسياسة ورياضة، وهو من مواليد الدار البيضاء، بل إن والده كان يملك عقارات في الحي الذي سيحمل اسم عائلة بوشنتوف، فضلا عن قربه من القصر بسبب مصاهرة مع العائلة الملكية. لهذا ظل بيت العائلة مقصدا لكل من به خصاص، حتى قبل انتخابه رئيسا للجماعة عرف بسخائه وبحبه للجميع، وقد اعتاد الناس على مواقفه النبيلة، وهو يخصص وقتا ومالا وجهدا كبيرا لمساعدة المعوزين والفقراء ونصرة المظلومين، بل إنه يخصص رواتب قارة لعشرات العائلات الفقيرة ولليتامى والمرضى المعوزين، وكل هذا من ماله الخاص.
ولعل الصداقة المتينة التي كانت تربط بوشنتوف بوزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، قد ساهمت في فك العديد من الإشكالات التي اعترضت التجربة الجديدة، كما أن قربه من المواطنين ساهم في تحقيق نجاحات عديدة، رغم إضراب الدار البيضاء الذي تزامن مع هذه الولاية، وحول المدينة إلى منطقة خارجة للتو من معركة قاسية.
عرف بليوط بحس التعايش الذي يسكنه، وخلال ولايته فوض الكثير من الاختصاصات لشمعون ليفي، الناشط الشيوعي في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، منذ أن انتخب هذا الأخير نائبا في المجلس البلدي للدار البيضاء من سنة 1976 إلى 1983.
محمد أبيض.. رئيسا للمجموعة الحضرية بدعم من النقابي بن الصديق
أجريت التجربة الانتخابية الثالثة في العاشر من ماي عام 1983، وذلك بمشاركة 11 حزبا من بين 14 تشكيلة حزبية موجودة آنذاك، ولقد عرف التقطيع الانتخابي تعديلات مهمة لينتقل عدد الدوائر الانتخابية من 13520 دائرة إلى 15500 دائرة انتخابية، بزيادة حوالي 2000 دائرة جديدة، وذلك بالمقارنة مع الدوائر الانتخابية لعام 1976.
في بداية الستينات كان محمد أبيض عنصرا نشيطا في الشبيبة العمالية لنقابة الاتحاد المغربي للشغل، والتي كانت مكونا أساسيا من مكونات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لكن دخوله الحقيقي إلى مربع عمليات السياسة يرجع إلى سنة 1962، حين انضم إلى الحملة الانتخابية للمعطي بوعبيد، والتي مكنته من اعتلاء منصب رئيس بلدية الدار البيضاء.
بدأ محمد أبيض مسيرته السياسية في عام 1976، كمستشار ونائب رئيس عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان والمجتمع الحضري للدار البيضاء. في الانتخابات التشريعية لعام 1977، انتخب نائبا عن مدينة الدار البيضاء، في عام 1983، تم انتخابه رئيسا للمجموعة الحضرية للدار البيضاء.
قبل أشهر قليلة من انتخابات عام 1984، شارك أبيض في تأسيس حزب الاتحاد الدستوري؛ وتم إعادة انتخابه نائبا للدار البيضاء خلال هذه الانتخابات. في سنة 1985، تقلد منصب وزير للصناعة التقليدية والشؤون الاجتماعية، وهو المنصب الذي شغله إلى غاية سنة 1992.
دعم النقابي المحجوب بن صديق صديقه أبيض، العضو الدائم عندما يتعلق الأمر بالتفاوض بين الاتحاد المغربي للشغل وهيئات أخرى. وكان يشغل منصب رئيس لمؤسسة الأعمال الاجتماعية للمكتب الوطني للكهرباء، حيث لعب دورا كبيرا في توفير الشغل لعدد من لاعبي الرجاء الرياضي. وفي عام 1983 أصبح رئيسا لبلدية الدار البيضاء، لكن مناصبه لم تزده إلا ابتعادا عن الأضواء، وإصرارا على التأمل في الحياة. كما يقول رمزي صوفيا في سيرة محمد أبيض: «كثيرا ما كنت أزوره في بيته بالدار البيضاء، الذي يطل على البحر مباشرة، فأجالسه في شرفة البيت، متناولا معه عدة مواضيع. فيذهلني عندما أجده ينتقل من موضوع علمي إلى موضوع سياسي، ومن حديث فني إلى كلام عن التاريخ أو الجيولوجيا. لقد عرفت في الأستاذ أبيض اطلاعا كبيرا وذكاء ثاقبا في التحدث عن عظماء التاريخ، بطريقة تجعلك تحترمهم كيفما كانوا».
لكن الخدوش التي ظلت عالقة بصفحة تسيير الدار البيضاء في عهده، ترجع إلى قراره القاضي بهدم المسرح البلدي للدار البيضاء دون مبرر معقول، علما أن رئيس المجموعة الحضرية كان متيما بالمسرح والطرب.
عبد المغيث السليماني يقضي أيامه أمام المحققين وكمو ينال التفويض
اعتقد محللو الشأن المحلي أن انتخاب عبد المغيث السليماني على رأس المجموعة الحضرية للدار البيضاء، سيمنح للمدينة دفعة قوية، اعتبارا للصداقة التي جمعته بوزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، لكن الرياح اختارت أن تمشي بما لا يشتهيه البيضاويون ورئيس جماعتهم، بعد أن أصبح رئيس جماعة الصخور السوداء ورئيس المجموعة الحضرية حاضرا بقوة في صفحات الجرائد، بقضاياه المعروضة على المحاكم.
طوقت القضايا عنق عبد المغيث، سيما بعد إقالة إدريس البصري من مهامه، حيث صدر قرار بمنع السليماني من مغادرة البلاد، إلى حين عرض قضيته على المحاكم في ما كان يعرف بملف السويسري لوفاط.
استدعت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية عبد المغيث السليماني، الذي شغل من قبل منصب رئيس مجلس مدينة الدار البيضاء، للتحقيق معه في قضيتين مرتبطتين، الأولى «قضية المشروع الإسكاني أولاد زيان» والثانية «المشروع الإسكاني الفوارات». أما الثالثة فتتعلق باختلالات في تسيير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لكن غرفة جرائم الأموال في محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، أنهت فصول قضية فجرها تقرير لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، والتي همت تسيير المؤسسة العمومية ما بين سنتي 1972 و1992. إذ برأت هيئة الحكم عبد المغيث السليماني ومن معه، من التهم المنسوبة إليهم في هذا الملف الذي شهدت أطوار الفصل فيه العديد من التجاذبات طوال السنوات التي استغرقها، سيما في عهد أحمد الميداوي، الوزير الذي خلف البصري في الداخلية. لهذا لا يذكر البيضاويون من ولاية عبد المغيث سوى المنازعات.
بعد أن غادر عبد المغيث السليماني حزب الاتحاد الدستوري، لم تصبح له أي مسؤولية في تسيير الشأن المحلي بمدينة الدار البيضاء، يقول أحد أعضاء عائلة السليماني، حيث قطع علاقاته العمومية جميعها، وأصبح يعيش شبه عزلة.
أمام هذه الإكراهات فوض عبد المغيث لصديقه محمد كمو، رئيس جماعة الحي الحسني الأسبق، شؤون المجموعة الحضرية، بحكم اطلاعه بمنصب نائب الرئيس، وكان الراحل يعتبر المسير الفعلي للمجموعة. ولقد استمر في منصبي رئيس جماعة الحي الحسني ونائب رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء سابقا في عهد عبد المغيث السليماني، طيلة 17 سنة من 83 إلى سنة 2000.
سيخلف سعد العباسي صديقه عبد المغيث، وسيقضي زمنا طويلا في محاربة طواحين هواء السياسة.
جان كورتان.. مهندس معماري حكم الدار البيضاء
يتردد اسم جان كورتان كثيرا ليس فقط في الدار البيضاء، بل في ربوع الوطن، يكفي أن يكون حاضرا في كتابات بعض الأدباء الذين تحدثوا عن العاصمة الاقتصادية خلال الفترة الاستعمارية، خاصة في أبرز شرايين المدينة أو ما يعرف اليوم بشارع إبراهيم الروداني، بالقرب من زنقة «جيرا» الشهيرة بحي المعاريف، سيما وأن مقهى «لابريس» الذي كان يشكل ملاذا لكثير من المبدعين يوجد في شارع كورتان، والأكثر من ذلك أن تجمعا سكنيا عبارة عن عمارات استوطنها رجال الأمن بمحاذاة مع ولاية الأمن بالدار البيضاء، وكانت تضم مقرا لشرطة الأخلاق خلال الفترة الاستعمارية، ويحمل اسم هذا الرجل الذي لعب دورا كبيرا في تحقيق الأمن الاجتماعي في العاصمة الاقتصادية.
خارج الدار البيضاء، يحضر اسم كورتان من خلال ساحة جان كورتان في حي أكدال بالرباط قبالة ثانوية «ديكارت»، وفي عدد من المؤسسات ذات الارتباط بالجانب المعماري ليس فقط في المغرب، بل في فرنسا أيضا.
في كتابه «جوانب من ذاكرة كريان سنطرال- الحي المحمدي بالدار البيضاء في القرن العشرين محاولة في التوثيق»، يتحدث المؤلف نجيب تقي، والذي نشرته جمعية «الدار البيضاء ذاكرة»، حيث يرصد دوره في تغيير ملامح كريان سنطرال، وإصراره على تحويل هذا التجمع السكني إلى أحياء صغيرة للطبقة العاملة، على أن تتكلف كل شركة ببناء مساكن لإيواء عمالها، مقابل مبلغ مالي شهري يقتطع من راتب العامل.
تأسست شركة «سيماف» عام 1929، تحت اسم «شركة الدراسات العقارية والتجارية والصناعية في إفريقيا الفرنسية»، ولها فروع طبعا في كثير من الدول التي كانت تحت نفوذ فرنسا، وتعرف لدى أبناء الحي المحمدي باسم «شركة الكريان الجديد»، «لها قصة متفردة في تاريخ كريان سنطرال، بدأت بخلاف بين مسؤولي هذه الشركة واللجنة البلدية حول أرض في ملكيتها تحت اسم «كاليكس»، تقع جنوب السكة الحديدية الرابطة بين الدار البيضاء والرباط، قرب ملتقى زنقة فالمان وزنقة بوردونو. وقد بدأت جذوره، حسب وثائقنا، قبل 13 أكتوبر 1934، عندما طلبت الشركة من جان كورتان رخصة إحداث تجزئة على تلك الأرض رد عليها بالرفض. وربما كان هذا الرد سببا في لجوء الشركة إلى الكاتب العام للحامية العسكرية، من أجل تسوير تلك الأرض، فوافق عليه في 26 مارس 1935، وظل الخلاف قائما إلى أن تمت تسويته في 20 غشت 1937.
تقول كثير من الشهادات إن كورتان كان «صديقا للفقراء»، وتبين من حضوره في الإرهاصات الأولى للحركة النقابية في المغرب، حيث ظل يتأبط ملف السكن الاجتماعي، وناضل من أجل العيش الكريم لسكان مدن الصفيح، بل إن ألبير عياش يتحدث عنه في كتابه حول تاريخ الحركة النقابية في المغرب، ويرصد جزءا من مواقفه في أولى التجمعات النقابية في المغرب.