عبد المولى الزاوي
تعدادهم «رسميا» 44 ألف موظف، بحسب تصريح لوزير الداخلية تحت قبة البرلمان، وأجرهم لا يتعدى 1590 درهما في الشهر. يملؤون مكاتب مختلف الإدارات العمومية ويعملون في صمت، وعلى أيديهم تُقضى حوائج آلاف المرتفقين. يحسبهم الكثيرون موظفين كبارا والحال أنهم «ضحايا» كبار لشبح البطالة، اختاروا ذات لحظة من أعمارهم المختلفة أن يتدثروا بلباس «الإنعاش الوطني» لعلهم يؤسسون لحلم الاستقرار الوظيفي. لكن الحلم طال بالكثيرين منهم، فبلغ منهم البعض سن التقاعد بدون حق في هذا التقاعد نفسه، ووجد آخرون أنفسهم قد بلغوا نقطة اللاعودة، فإما الاشتغال بدون حقوق أو الخروج للمطالبة بالحقوق بدون شغل.
هم جيش من الموظفين إذن، ما إن تُحدث أحدَهم في الموضوع حتى يسترسل في وصف «محنته» التي تُختصر في القيام بأشغال كبرى مقابل دراهم قليلة يحصلون عليها نهاية كل شهر، لا تكفي لكراء بيت في أقصى المدينة وفق تعبير أحدهم، مضيفا في حديثه إلى «الأخبار» أن الأمل في غد مشرق، يعتبر لوحده كنز الطاقة الوحيد، الذي يغذي إرادة موظفي الإنعاش الوطني وهم يقومون بما يعز على الموظفين العاديين القيام به.
إن مصطلح «الإنعاش الوطني» يحيل في اعتقاد الكثيرين إلى «حزمة» من عمال النظافة، الذين تستعين بهم الجماعات، بمناسبة أو بدونها، في استكمال ما تعرفه من خصاص في هذا القطاع، والحال أن «موظفي» الإنعاش ينتشرون في العديد من الإدارات التابعة لوزارات مختلفة، لا فرق بينهم وبين أطر السلالم العليا من جهة المهام التي يتم القيام بها، لكن شتان بينهم وبين هؤلاء من حيث الأجور المحصل عليها.
كيف إذن يُستساغ في الظروف الحالية للبلاد أن «يتعايش» الفريقان، فريق الوظيفة العمومية بشكلها العادي وفريق «موظفي» الإنعاش الوطني؟ وما السر في قبول الاشتغال بحوالي 50 درهما في اليوم سنين عددا؟ وأين تقف مسؤولية رؤساء البلديات وفريق المنتخبين في موضوع إدماج موظفي الإنعاش في سلك الوظيفة العمومية؟ وهل الظروف التي سمحت بميلاد «الإنعاش الوطني» في مغرب «غابر» هي الظروف نفسها التي تعيشها بلادنا حاليا؟ وألا يحق لموظفي الإنعاش، الذين يحمل كثير منهم شهادات عليا، التكتل في منظمة نقابية للجهر بمطالب الحد الأدنى من العيش؟
أسئلة وغيرها كثير سعت «الأخبار» إلى الاقتراب من الإجابة عنها، عبر مجالسة عينة من موظفي الإنعاش في العاصمة الرباط، والاستماع إلى همومها التي هي نفسها هموم البقية في باقي المدن المغربية، وكذلك عبر «التنقيب» في أدبيات المنظمات النقابية التي «تتبنى» مطالب هذه الفئة، ومن جهة أخرى سعت الجريدة إلى الوقوف عند موقف بلدية الرباط في موضوع الموظفين العاملين في أسلاك مقاطعاتها المختلفة.
بين عصا الطرد وجزرة الترسيم
تختلف قصص المنتسبين إلى قطاع «الإنعاش الوطني» في تفاصيل «المعاناة» الخاصة بكل فرد على حدة، لكنها تتوحد في الإشارة إلى الفاعل، الذي هو الإدارة بمفهوم أو بآخر، وتتوحد في الأجر الذي بالكاد يصل إلى 1590 درهما في الشهر، وإن تفرع الموضوع إلى أسئلة تختلف باختلاف أصحابها وأولوياتهم، بين قائل إن الأجر الذي يحصل عليه نهاية كل شهر لا يغطي حاجياته من أدوية الصيدليات، وقائل إنه بالكاد يؤدي ثمن إيجار سكناه التي حازها في مغرب الثمانينيات بثمن يبدو زهيدا مع معطيات الحياة الجيدة.
«تختلف الأسباب والموت واحد»، يقول أحد الموظفين المعنيين، مضيفا في حديثه إلى الجريدة أن اسمه واسم باقي زملائه في مديرية الإنعاش «مكتوب بالطباشير»، في إشارة منه إلى إمكانية التخلي عن موظفي الإنعاش، لا بجرة قلم كما يقال، بل بأقل من ذلك بكثير، إذ تكفي غضبة رئيس ما، لمقاطعة ما أن تلقي بأي كان عرض الحائط.
الموظف الغاضب ذاته، يقول إن ما يحز في نفسه كثيرا هو عدم التفات أي من الحكومات الكثيرة التي عايشها منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى الموضوع عدا شذرات من هنا وهنالك يلقيها بعض «الزعماء» السياسيين عشية كل استحقاقات جماعية أو تشريعية، تكون البلاد مقبلة عليها، من قبيل إشارة تعرض إليها زعيم حزب الاستقلال، حميد شباط في إحدى البرامج التلفزية، أو غيره ممن يجيدون اللعب على الأوتار الحساسة لمختلف الطبقات الشعبية، بين التشغيل لفئة المعطلين و»الترسيم» لفئة المؤقتين وهلم عناوين كبرى لمشاكل تئن تحتها طبقات مختلفة من المجتمع.
تجربة إدماج في عهد اليوسفي
قالت مصادر خاصة للجريدة إن التجربة «الوحيدة» لإدماج موظفي الإنعاش الوطني على مستوى العاصمة الرباط، شهدتها مقاطعة حسان على عهد رئيسها السابق، الراحل عبد الفتاح سباطة، الذي لم يتردد في «تمكين» حوالي 192 موظفا من حقهم في الاستقرار الوظيفي، مضيفة إن الرجل قاد مفاوضات «شاقة» مع العديد من الجهات الحكومية بغية تجاوز عراقيل السن والأقدمية بالنسبة للكثير من المستفيدين.
المصادر ذاتها، تساءلت عن السر في عدم اتباع «نهج» رئيس حسان السابق بغية التأسيس لمسألة الإدماج هاته، خاصة وأن السؤال في نازلة الحال إنساني بالدرجة الأولى، اعتبارا لكون العديد من الموظفين مسؤولين عن أسر وأبناء، يتطلب معيشهم ومسكنهم الكثير من الإمكانيات المادية، سيما في مدينة مترامية الأطراف كالرباط، يرتفع فيها مستوى المعيشة يوما بعد آخر.
وبحسب العديد من الموظفين فإن «شبح» الطرد من العمل يحول دون الجهر بمطالبهم في الترسيم ضمن أسلاك الدولة، التي قضوا فيها سنوات عديدة، أكسبتهم تجربة لا يستهان بها، مضيفين في حديثهم إلى الجريدة أن قطاع الإنعاش الوطني أشبه بالمربع الذي لا يراد لأحد الاقتراب منه، درءا لنشر غسيله على العموم.
الغاضبون يصرحون بأنه إن كان الآلاف منهم يحملون أتعاب الإدارة في المقاطعات والمستشفيات والمدارس، فإن آلافا أخرى من المنتسبين للقطاع لا تحضر البتة إلى مقرات العمل، مكتفية بحملها لبطائق الانتماء لا غير، وهذه الفئة من الموظفين «الأشباح» تحظى بالحماية اللازمة من قبل أسماء نافذة، لأنها (والكلام للموظفين الغاضبين دائما) ترتبط بعلاقة قرابة مع العديد من الرجال النافذين في وزارة الداخلية على وجه الخصوص، إذ إن كثيرا من زوجات المسؤولين وأصهارهم يستفيدون من «ريع» الإنعاش دون تقديم أي مجهود يذكر.
محدثو الجريدة ذكروا بالاجتماع الذي جذب حوالي 1700 موظف إنعاش بقاعة المهدي بنبركة قبل سنوات، والذي على إثره تمت تسوية وضعية الكثيرين منهم، مشيرين إلى أن هذه التسوية «المتفرقة» تعتبر بمثابة الجمر الذي يذكي نار الأمل في طي الملف بالشكل الذي يحمي كرامة المعنيين.
بنكيران واستغلال القضية
يعيب موظفو الإنعاش الوطني في المغرب بشكل عام، وفي الرباط على وجه التحديد، على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وفريق حزبه الحاكم، من قبيل الوزيرين مصطفى الرميد وعبد العزيز رباح، ما وصفوه بـ «الاستغلال السياسوي» لقضيتهم، مذكرين بحزمة الأسئلة الشفوية التي كانت الأسماء المذكورة «تجهر» بتوجيهها إلى حكومة عباس الفاسي زمن المعارضة، والتي جاء فيها انشغال فريق «العدالة والتنمية» آنئذ بالمحنة التي تعيش تفاصيلها اليومية فئة موظفي الإنعاش.
محدثو «الأخبار» يكشفون عن أن آمالهم في تسوية أوضاعم كانت «عريضة» مع اعتلاء بنكيران وصحبه كراسي المسؤولية الحكومية، التي تخولهم الإجابة عن تساؤلاتهم القديمة، ليس إلا، مضيفين أن الجميع «تنكر» لهم في العهد الحالي، مما يعني والحالة هاته أن المراد بتلك «الجلبة» تحت قبة البرلمان، لا يتجاوز «دغدغة» المشاعر لجر أصحابها إلى التصويت على الحزب الحاكم اليوم.
بقيت الإشارة إلى أن «الأخبار» اتصلت بمندوبية الإنعاش الوطني، الكائنة بحي الرياض في الرباط، وذلك لاستفسار مسؤولها الأول سعيد بادة حول الموضوع، إلا أنه كان في مهمة خارج مكتبه، أما مجلس بلدية المدينة فألقى باللائمة في الموضوع على العمدة فتح الله ولعلو الذي، وبحسب زملائه المستشارين، فقد «تراخى في التعاطي مع الأسئلة الشاغلة لبال الساكنة ككل، فما بالك بالنسبة لموظفي الإنعاش الوطني؟»، يتساءل كثير من المنتخبين.
النحيلي : «شغيلة الإنعاش الوطني تقوم بكل شيء ولا تستفيد من أي شيء»
يرى محمد النحيلي، عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الديمقراطية للشغل، أن وضعية عمال الإنعاش الوطني مأزومة لشريحة داخل الإدارات العمومية وخارجها بأجرة زهيدة تتراوح ما بين 1200 و1800 درهم شهريا مع الاقتطاع، هذا إن تم استخلاصها بشكل منتظم حيث أحيانا تتأخر بشهرين أو ثلاثة، مشيرا إلى أن من هذه الفئة حملة شهادات عليا ومجازون وحاصلون على ماستر.
وأكد النحيلي أن عمال الإنعاش غالبا ما يتم استدعاؤهم خارج أوقات العمل الرسمية للفيلات والإقامات «المعلومة» للقيام بالأعمال المنزلية، مضيفا أن أشكال الرق والاستعباد لم ترحم حتى ذوي الإعاقة.
هؤلاء العمال، بحسب عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الديمقراطية للشغل، محرومون من الحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، والاستفادة من العطلة السنوية، والرخص للتغيب بسبب المرض أو لمناسبات عائلية، بل وحتى عطلة الأمومة..
وأبرز النحيلي أن هذا الوضع يعكس عدم اهتمام الحكومة بأسس العمل اللائق المرتكزة على المبادئ والحقوق الأساسية في العمل ومعايير العمل الدولية، وفرص العمل والأجور والحماية والضمان الاجتماعي..
وذكر الفاعل النقابي بأن ما وصفه بالحزب الحاكم (في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية) استغل سياسيا، أيام كان في المعارضة، مأساة عمال الإنعاش الوطني وطرح عدة أسئلة (من طرف السادة النواب البارحة والوزراء اليوم بل حتى السيد رئيس الحكومة) يطالب فيها الحكومة السابقة بتسوية وضعية هذه الفئة وإدماجها، معتبرا أن الأمر يتطلب إرادة سياسية وجرأة للتعاطي مع هذه الإشكالية.
وسجل النحيلي أن هذا الحزب يدير ظهره الآن ويتنكر لمطالب هذه الفئة «التي تبين وبالملموس أنها كانت ضحية استغلال وليست نتيجة انشغال ففي الوقت الذي تدعو فيه الحكومة المقاولات لاحترام مدونة الشغل تجدها هي نفسها تخرق حقوق هذه الفئة وفي عقر مقراتها الإدارية»، يضيف عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الديمقراطية للشغل.
ويرى هذا الفاعل النقابي أن عمال الإنعاش الوطني ظلوا خارج دائرة الاهتمام والتأطير النقابي على اعتبار أن الفاعل النقابي يتعاطى بانتهازية مع قضايا الطبقة العاملة، حيث يستثمر مجهوداته في قطاعات مهيكلة من شأنها أن يقطف منها أصواتا انتخابية متمثلة في صفة مناديب العمال، مؤكدا أن المنظمة الديمقراطية للشغل كنقابة بشكل مغاير تتخطى خطوط الحظر وتلتحم وتعانق هموم عمال وعاملات الإنعاش الوطني لتؤسس بذلك أول نقابة وطنية توحد هذه الفئة وتؤطرها من أجل الانتقال بها من وضعية الاستغلال والمهانة إلى وضعية الحقوق والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وأفاد النحيلي بأن المنظمة الديمقراطية للشغل تقدمت بتقرير حول وضعية عمال الإنعاش الوطني لمنظمة العمل الدولية تعري فيه عن واقعهم المزري واستغلالهم من طرف الحكومة، مشيرا إلى تنظيمها للعديد من الأشكال الاحتجاجية وبعثها رسائل للفت انتباه المسؤولين الحكوميين من أجل تسوية وضعية هؤلاء العمال المالية والإدارية.
وأوضح النحيلي قائلا: «لقد لخصنا مطالبنا في اختيارين أساسيين، سواء بالإدماج المباشر في أسلاك القطاعات العاملين بها مع وضع استثناء للسن القانوني للتوظيف واحتساب سنوات الأقدمية في العمل؛ أوخلق نظام أساسي خاص بهم يراعي المقتضيات الواردة في قانون الوظيفة العمومية».