شوف تشوف

الرأي

على رصيف العاصمة

جهاد بريكي
أستغرب لمن يسعد بقدوم فصل الصيف، فرغم أن والدتي انتظرت أكثر الشهور سخونة لتعرفني على العالم وتقدمني له كمخلوق جديد جاء ليواصل الكفاح، إلا أني أكاد أصاب بالاكتئاب كلما شعرت بأشعة الشمس تهوي على جسدي. سماء هذا الصيف بالغت في بياضها، بياض يزيد من بؤس جسدك القابع تحت لهيب الشمس وجحودها، فيطرح سوائله وروائحه ليجعلك لزجا كسحلية. ترفع عينيك نحو السماء محاولا مهادنتها علها تحنو عليك وتسمح لغيمة باردة بالظهور، فتشعر بأن أصابعها ساخنة انغرست داخل أحداقك تعاقبك على جرأتك في النظر إليها. تطأطئ رأسك وتمضي في طريقك راجيا مصادفة نسمة عبير يتيمة تخفف عنك قليلا من عذابك. نسمة لا تأتي أبدا.
أجوب هذا الشارع الكبير الذي صار وجهة كل قادم لمدينة الرباط، المتمركز وسط حي أكدال. شيد حي أكدال في عهد الحماية الفرنسية، لم يكن ذا شأن يذكر، فكان يقيم به الطلبة والجامعيون القادمون من نواحي المدينة وضياعها. ثم نزح نحوه الأوروبي بعد ذلك ليحوله لحي الأغنياء والمتنفذين، ويطبعه بعمارته وذوقه الغربي. أكدال باللغة الأمازيغية تعني الحدائق والمروج التي منع حرثها. يقال إن حي أكدال بالرباط سمي كذلك لأنه كان مكان رعي خيل المخزن وفرسه. اليوم أكدال مرعى الجميلات ممن يتوافدن عليه بألبسة جذابة تظهر الأجساد الممشوقة، ووجوه نالت قسطا وفيرا من العناية والتجميل والتصحيح. يتهادين كطيور فلامينغو داخل بحيرة خضراء، أتابعهن بحذر، نظراتهن التي تحاول لمس السماء فخرا، وانبهارهن بجمالهن قبل غيرهن. أكدال يجمع الجميع، ذاك الذي جاء لأجل شؤون وأوراق إدارية فأدركه وقت الغداء أو قهوة الظهيرة هناك، والذي هرع بحثا عن وظيفة فجاء يلتمس كرم ومقابلة أرباب الشركات وأصحاب المؤسسات. والذي يجر ملفا طبيا ضخما ينتقل به من مصحة لأخرى عله يعثر على علاج يريح عقله وجسده. الصحفيون يدخنون التبغ، والفنانون يرتدون القبعات وأساور من جلد حول معاصمهم.
أحب الجلوس في هذا المكان، رغم صخبه. أتابع الحركة التي لا تتوقف، والأفواه الممتلئة بالطعام والحلويات والعصائر والفطائر. الرجال المتنكرون ببذلات رسمية ومشانق حريرية حول أعناقهم، سجائرهم المحتضرة بين أصابع أرهقها نقر الحواسيب. محادثات حول السياسة والمال، العلاقات العاطفية والجمال، الخيانة والدين واللقاح والحب. نظرات الإعجاب والاشتهاء المتبادلة هنا وهناك، الضحك بأعلى صوت والبكاء بأوهن صوت. جرائد تواسي أكواب القهوة الباردة المنسية، وحراس سيارات ينازعون حقهم في البقاء. الفوضى المؤثثة، وأنا وسط الحشد متثائبة أقرأ رواية لكاتب برازيلي تروي قصة طفل لم يجد من يصادق فصادق جذع شجرة. أحوم بعيني هل كان يمكن لبطل الرواية “زيزا” أن يجد جذع شجرة هنا ليصادقه!؟
تمتلئ المقاهي بأشقائنا العرب من جاؤوا من دول الخليج رفقة أموال الخليج لقضاء عطلة لطيفة هنا، تكاد ترى السعادة تستوطن وجوههم بهذا الجو الصاخب وهذا الجمال الأخاذ، سعادة لا تضاهيها سوى البهجة التي تعلو وجوه ملاك المقاهي وندلها، باستضافة الريال القطري والدينار الكويتي ودرهم الشارقة. قهوتي دائما يلونها الحليب فتفقد سوادها، حبا في المذاق ورغبة مني في كسر مطلق السواد. بجانبي يجلس رجل وامرأة يحاولان إقناع رجل آخر بتغيير انتمائه الحزبي. مظهر يشبه إلى حد بعيد دعوة زواج من رجل شرقي لفتاة فاتنة. وعود ضخمة بالرفاه والأمان والسعادة والغنى والترف. ثم بعد الزواج، وبعد الانتخابات، تعلو الحقيقة فوق الزوج والسياسي. الكلام عن السياسة والزواج يصيبانني بالملل، عادة ما أتجنب أصدقائي السياسيين والمرتبطين عندما يندفعون كبركان هادر يروون مآسيهم ومعاناتهم. ثم ينتهون بالجملة الركيكة نفسها والابتسامة الكاذبة نفسها، “لكنه أمر يستحق العناء”.
أختتم الجولة اللطيفة هذه بمشية متأنية بين البالغين والأطفال، نمشي مستقيمين كل غارق في أناه، يحلم ويطمح ويحن ويشتاق. أضع سماعة الهاتف في أذني وأنتظر صوت مطرب إيراني لا أعرف لا اسمه ولا ما يقول، يجمعني به اللحن وعذوبة الإحساس. تخرجني من خلوتي طفلة سمراء بشعر أسود داكن مجعد، كأنها هربت للتو من جزيرة يسكنها الغجر. تحمل بعض الحلوى في يدها وتقدمها لي. هل يمكنك شراء بعضها مني !؟. وكشخص لم يعد يطيق الطعم الحلو ولا الكلام الحلو، أهم بالاعتذار، فتطلق جملة بصوت امرأة تفيض كبرياء وكرامة. لا بأس، إن كنت راغبة عنها فلا عليك.
كلماتها جعلتني أتوقف أمام عينيها لثوان أبحث عن هذا الكبرياء الذي يصارع الحاجة بداخلها. لم تتوسل ولم تعد طلبها ولم تهتم لدريهماتي التي يمكن أن تجنيها لو أصرت. بل حاولت أن تجنبني الإحراج فاعتذرت قبل أن أفعل. تركتني وذهبت تحمل بيد الحلوى وباليد الأخرى قوة تمنيت امتلاك شيء منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى