على درب التعبئة والاستعراض
لم أنجح في البداية في إقناع أبناء جيراننا بفريضة تعلم الدين.. وضرورة الاجتماع في مكان معين لتدارس أمور المؤمنين.. اعتمدت خطابا سهلا في التواصل مع الشباب، فلم يكن ذلك مجديا.. ألححت على بعضهم أنه من اللازم الاجتماع لحفظ القرآن.. ومدارسته.. وأن هذا العمل كان سلوك «الصحابة» في بداية انتشار الإسلام.. ارتاب بعض الشباب في الأمر.. انتبهت إلى أن علي أن أركز في «دعوتي» على الطلبة الجامعيين الذين يسكنون الكاريان..
نجحت أخيرا في إقناع ثلاثة طلبة بواجب الجلوس وفهم أمور الدين.. هذه المرة بمساعدة «فاطمة» أخت «أبو أيمن».. سبقتني في التخرج من كلية «الدراسات» الإسلامية.. اتفقنا نحن الأربعة على تأسيس جلسة تربوية غايتها حفظ القرآن والتفقه في الدين.. في الحقيقة كان هؤلاء الثلاثة من «الجماعة».. يفهمون كل شيء.. أرادوا فقط مساعدتي في إنشاء عمل دعوي فعال في المنطقة..
أظن أنهم قدموا إلي يد المساعدة بإيعاز من «أبو أيمن».. فهو قائد ونافذ لدى الإسلاميين.. لكن اعترضني مشكل عويص.. أين سيلتئم شمل الخلية؟
قلبت الأمر من كافة مناحيه.. قررت في نهاية الحيرة أن تُعقد أول جلسة عندنا في البيت.. اضطررت إلى الكذب على والدتي وإيهامها بأننا سنجتمع نحن الأربعة للتعاون في أمور دراستنا!!.. اقتنعتْ بذلك بسهولة لأن هذا الاجتماع لا يثير أية شبهة.. أولا نحن طلبة.. وثانيا نستقر جميعا بالكاريان..
أخيرا نجحت في مهمتي.. التقيت «أبو أيمن»، فأخبرته بهذه المستجدات.. وزرت «أبو إيمان» في جلسته الأسبوعية لأطلعه على أول خطوة «حركية» قمت بها في حياتي.. بحكم أنه هو المسؤول المباشر عني.. هذا الإنجاز وإن كان متواضعا في إبانه إلا أنه جعل مكانتي تتوطد داخل الجماعة.. أصبحت في النهاية مسؤولا عن «جلسة» أو «خلية» إسلامية في الكاريان..
وجدت سهولة في ترؤس الجلسة.. والسبب هو أن هناك برنامجا تربويا أعدته جماعتنا سلفا للمبتدئين.. عبارة عن دروس ومواعظ تم اختيارها بعناية للتدرج بالسالكين رويدا إلى مدارج «الحركة».. هو في الحقيقة برنامج لاصطفاء «النجباء» أو «الرواحل» (راحلة الإبل كما في الحديث النبوي).. فيرتقي من كان «مجتهدا» إلى مصاف «القياديين».. ومن خانه ذكاؤه، فهو على الأقل يعتبر رقما إضافيا في ما نسميه «التيار» العام للجماعة..
نجحت مرة أخرى في «إغواء» ثلاثة تلاميذ إلى بيتنا المتواضع.. أصبحنا سبعة.. بدأ اللغط يكثر أثناء لقاءاتنا الأسبوعية.. فالتلاميذ والطلبة يعرفون بالثرثرة الفكرية.. كان حديثنا عن الإسلام والمسلمين يتشعب بنا كثيرا.. وجدت صعوبة في ضبطهم وإقناعهم في المسائل الخلافية في الدين.. كانت مهمة صعبة للغاية أن تحسم داخل تنظيم تربوي في المسائل التي فرقت الأمة طيلة قرون من الزمن.. أكثرت في هذه المرحلة من قراءة الكتب الفقهية.. نصحني إخواني بدراسة كتب «القرضاوي» و«الغزالي» و«الترابي» و«الغنوشي».. هؤلاء أبدعوا في استلهام فقه الواقع.. والوقوف على دروبه المتشعبة.. على الأقل بدأنا نحتكم إلى «علماء» لحسم الخلاف بيننا.. مرة أخرى نحتاج إلى أناس من المشرق العربي لتعليمنا أمور ديننا.. «البنا» هو من أنشأ الفكر «الإخواني»..
و«القرضاوي» هو فقيه «الحركيين» على الإطلاق.. أما «السلفيون»، فلهم فقهاؤهم وعلماؤهم ومشايخهم أيضا..
التلاميذ الجدد داخل «الجلسة» لا يعلمون أني كنت أتاجر بحضورهم معي في الدار وأستغل رغبتهم الصادقة في التدين لأبرهن للإخوان أني في مستوى المسؤولية التي كلفوني بها.. التلاميذ في نيتهم التعرف إلى دين الله، أما أنا فكانت نيتي إثبات الذات.. ما أعظم الفرق بين النيتين!!! هذه الحقيقة قلما ينتبه إليها «الإسلاميون».. لكنها تتيه وسط العمل اليومي والضغط الحركي..
استدعاني الأخ «أبو إيمان» إلى بيته ليذكرني بأني ملزم بحضور جلسة أخرى.. لكن هذه المرة جلسة تنظيمية.. بمعنى أنها ستكون مخصصة لتباحث المشاكل الكبرى للدعوة.. أصبحت الآن عضوا كامل العضوية في الحركة.. هناك معياران أساسيان للانضمام إلى الجماعة: أولا المواظبة على حضور الجلسات التربوية والجموع العامة.. ثانيا أداء الواجب المالي للحركة.. أي الزكاة.. بالنسبة إلي كانت تتوفر في الشروط كلها إلا الزكاة، فهي مفروضة فقط على من يملكون «العفو»..
كانت الجلسة «التنظيمية» تتألف من مسؤولي الجلسات على مستوى «المنطقة».. والمدينة أو «الجهة» تتكون بدورها من «مناطق حركية».. كانت مناسبة لأتعرف على باقي مسؤولي الجلسات في «منطقتنا».. ثم في ما بعد على مستوى «جهتنا».. وهكذا يتم «الاصطفاء» ثم «الارتقاء».. قد ينتهي الأمر بـ«الحركي» إلى أن يصبح «قياديا» على المستوى الوطني.. لكن للأسف «قيادة» الحركة بقيت عموما في أيدي الرعيل المؤسس.. أي أصحاب «مطيع».. وتلك قضية أخرى !!!
كنت محظوظا جدا لأن «أبو أيمن» كان من الرعيل الأول للحركة الإسلامية.. أسبقيته.. ونباهته.. وخطابته.. وعمله الميداني.. وجرأته الملحوظة.. كل ذلك بوَّأه مكانا عليًّا داخل الجماعة.. قربي منه واحتكاكي معه مدة من الزمن جعلني أتعرف إلى القادة الآخرين للجماعة.. وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.. إلا أني كنت على علم بالتوجهات الكبرى للحركة وعلى دراية واسعة بكواليسها.. أما من الناحية التنظيمية، فأنا مسؤول متواضع جدا أشرف على وحدة تربوية في منطقة هامشية (لم تكن لي أبدا طموحات قيادية)..
اشتغلت في أخطر بؤرة سكانية على الإطلاق.. إنه الكاريان.. «أبو أيمن» سبقني إلى التخرج من هذه الجامعة الخطيرة.. إنه المكان الأنسب لاستمالة الناس إلى «الدين الجديد».. يمكن استغلال حاجتهم وفقرهم وجهلهم للرمي بهم في شباك التنظيمات الإسلامية.. وهكذا تمت العملية «المشبوهة».. مرت الشهور.. ومرت أعوام..
استقر «أبو أيمن» في المدينة.. بقيت أمه «لالة فطومة» تسكن بجانبنا.. لم تعد تشتغل.. ناضلت في هذه الحياة من أجل تربية «أبو أيمن» و«فاطمة».. هذه الأخيرة أصبحت أستاذة.. تزوجت من «أخ» مهندس.. استمرت في عيادة أمها إلى أن وافتها المنية.. أسست «الأخت» جلسة تربوية خاصة بالأخوات بمنزل والدتها.. يجتمعن مساء كل يوم سبت.. كانت «فاطمة» نشيطة بشكل كبير.. تعجبت من خفتها التي لا تُجَارى.. تسهر على التدريس.. ثم تتابع أشغال المنزل.. ومتطلبات الزوج.. ثم تحمل كل هموم «الدعوة» و«التنظيم»..
كانت المشرفة على «العمل النسوي» بالكاريان.. وكنت أنا المسؤول عن «الإخوان» به.. تعاونت معي «فاطمة».. أو لنقل ساعدتها على «أسلمة» هذه البؤرة المتوترة.. وبما أنها أخت «قيادي» في الحركة، كانت الطريق أمامها معبدة لتسلق المسؤوليات داخل التنظيم.. ازدادت في الكاريان.. وفيه عاشت.. ومنه حصلت على شهادتها الجامعية.. كان هذا المكان هو محور عملها «الحركي» و«السياسي» و«الجمعوي».. اقتصرت في علمها على ما تعلمته من الجامعة.. وما نهلته من شعبة الدراسات الإسلامية.. لم تضف هذه الدراسات أي شيء إلى فكرها التقليدي.. آفة «فاطمة» أنها لم تكن تقرأ الكتب.. همُّها الوحيد هو نشر «الدعوة».. تعتقد أنها تخدم دين الله.. وهي في واقع الحال كرست كل حياتها لخدمة «الحركة».. و«زعيمها».. فبمساعدة أخيها «أبو أيمن» في الانتخابات، نالت في نهاية المطاف جزاء عملها هذا أنْ أصبحت برلمانية.. لم تعد تلك الشابة التي تخفض بصرها دوما إلى الأرض.. ويصبح وجهها مثل لون الطماطم من وقع الخجل.. بدَّلت أسلوب كلامها.. وغيَّرت طريقة لباسها.. اشترت سيارة فارهة بعدما حازت على مقعد بمجلس النواب بفضل «الكوطا».. كانت محظوظة جدا.. كانت تدخل بسيارتها إلى الكاريان، فتثير إعجاب النساء..
بدت على «الأخت» آثار النعمة بشكل لافت !! هل هو «الريع الحركي»؟.. أو هي عائدات «الدعوة»؟.. أو هي علاوات البرلمان؟.. على كل حال إنه «الاستثمار الديني» الناجح..
ساهمت «فاطمة» في تأسيس «العمل النسوي» على المستوى الوطني.. أصبحت في ما بعد هي أيضا «قيادية» في الجماعة.. تتقن فن الكلام.. تتحدث باسم الدين.. تتحرك وكأنها منتدبة لهذا الغرض.. كانت تخبرني بكل جديد «دعوي».. تعتمد علي في تعبئة الرجال داخل الكاريان.. هي تتولى تحريض النساء على المشاركة في كل التظاهرات التي تدعو إليها «الجماعة».. وأنا أقوم بتعبئة الرجال والشباب.. يمر ذلك عبر أخطبوط «الجلسات» الذي أحدثناه في الكاريان..
شاركنا جميعا في المسيرات التي نظمتها الجماعة.. وفي أغلبها كانت مسيرات لدعم القضية «الفلسطينية».. والمرأة.. والمشاركة في تظاهرات فاتح ماي… وهي القضايا التي «تاجر» فيها أغلب السياسيين المغاربة.. كانت ذريعة لكل من يريد أن يخرج إلى الشارع.. ويستعرض عضلاته أمام الجميع.. وبالخصوص أمام «المخزن».. في كل مسيرة نوزع «المطويات».. نحمل اللافتات.. نردد الشعارات.. نلعن «اليهود».. نسب أمريكا.. نطالب بتطبيق «الشريعة».. نستمع إلى بيان «الحركة».. وفي نهاية النهار نتبجح بقوتنا العددية التي تزيد يوما عن يوم..
المظاهرة أصبحت شبيهة بمباراة في كرة القدم.. نحرض الناس للخروج إليها حتى يكون عددنا أكثر من قوى اليسار.. وأيضا حتى نكون في مستوى الجماعة الإسلامية المنافسة لنا.. تبدأ المعركة حوالي الساعة العاشرة صباحا وتنتهي في حدود الواحدة زوالا.. نجمع أغراضنا وأدوات لعبنا.. اللافتات.. الميكروفون.. الأوراق التي ننشرها في كل مكان.. نقول للجميع: هاكم اقرؤوا من نحن؟ وماذا نريد؟ إننا قادمون ـ لا محالة ـ لتحريركم من العبودية.. ورفع الظلم عنكم.. وتخليصكم من براثن الفقر.. ومن هموم الدنيا.. نكذب على الناس حين نقول لهم إننا مخلصوكم من العذاب..