شوف تشوف

الرأي

على بساط الريح

ذهل المطرب فريد الأطرش، وقد أحاط به معجبون في فندق في الرباط، يطوقونه بالتحية والابتسام، ويطلبون إليه التوقيع على تذكار يؤكد أنه مر من هنا وصافح من استطاع الوصول إليه. وأصرت إحدى الحسناوات التي اخترقت جمع المحيطين بالموسيقار الكبير، على أن يوقع لها على ورقة باسم «بساط الريح» الأغنية التي اشتهر بها، ويقول في أحد مقاطعها: «بساط الريح يا أبو الجنحين.. مراكش فين وتونس فين».
أذهله أنها تمنت عليه أن يستبدل كلمة مراكش باسم المغرب، وقالت إنها مراكشية المنشأ والنسب، مغربية في الحسب والقلب، وعاشقة لفريد الأطرش في الهوى والطرب. لكن إطلاق مراكش على اسم المغرب كان سابقا لطيران المطرب الحزين على بساط الريح، ففي كتابات تاريخية يتم الحديث عن أهل مراكش للدلالة على المغرب، وبعض المشارقة يصفون سكانه بأنهم مغربيون وليس مغاربة كما تنطق عندنا.
روى المطرب فريد الأطرش الواقعة أمام فنانين مغاربة، وأردف إليها القول أن أغنية «بساط الريح» تعرضت للحظر في بلدان لم يذكرها الشاعر المصري صاحب القصيدة بالاسم، ليس تنكرا وإنما لمجاراة تفعيلة الوزن والإيقاع. ونقل عن فريد الأطرش قوله إن بعض الجزائريين عاتبوه لأنه غفل عن ذكر بلادهم وقفز عليها مع أنه لا يمكن المرور من تونس إلى المغرب، حتى بالطائرة من دون عبور الأجواء الجزائرية. رد عليهم بأن الشاعر اهتم بالبلدان ذات الرصيد في قطاع السياحة، وكان ذلك مخرجا لرفع العتب، مع أن بعض الإخوة في الجزائر لم يقفزوا على المغرب، بل سعوا لاقتطاع جزء من خارطته الترابية والوطنية، في محاولة يائسة لتشويه حقائق تاريخية وقانونية وحضارية.
أضاف المطرب الفريد في اسمه وروائعه أن القفز من وادي النيل إلى حلق الوادي، لم يكن يراد من ورائه شطب اسم ليبيا، وإنما البعد عن مصر طويل كما في القصيدة. فقد هاجر إليها فنانون من بلاد الشام والمغرب واستقروا بها، لما يميزها من عطاء فكري وفني وثقافي، ثم ظهر من ليبيا ملحن وكاتب كلمات شدا إليهما الانتباه إبان حرب الخليج الثانية، من خلال أغنية أذكت العروبة.
غير أن بساط الريح كان أقرب إلى نافذة يطل منه المطرب على وديان الطبيعة العربية وجبالها وحقولها ومنابع مياهها. وعندما كتبت الأغنية لم يكن العقيد القذافي جاء إلى الحكم، ولم يكن فكر بعد في استعارة شعر صناعي، كي يصبح لجماهيريته المنهارة واد تعرف به، على غرار النيل ودجلة والفرات وأم الربيع. لذلك رهن الارتواء بوادي دجلة الذي لا يضاهيه في تدفقه الذي لا ينقطع سوى الفرات الذي سينعت به الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري «أبو فرات». قبل أن يتنبه راسمو استراتيجيات الحروب والنزاعات إلى حروب المياه من الليطاني إلى النيل الأبيض والأزرق، ومن نهر الأردن إلى هضبة الأناضول.
هو الماء الذي جعل منه الله كل شيء حي، يروي الظمأ ويسقي الأرض التي تينع اخضرارا، سيحذو المطرب فريد الأطرش للتغني ببلاد الشام التي يتحدر منها وشقيقته اسمهان، فيصفها من صهوة بساطه الذي تداعبه الريح مثل أشرعة المرافئ بأنها بر الشوق: «ويا شقاق لبر الشام، تروح سكران بلا أقداح» ولم يدر في خلده أنه بعد عقود سيجف الشوق ويتحول نهر «بردى» إلى دماء تجري بسفك الأرواح التي أحالت مآثر الأمويين إلى مدن أشباح، لا حياة فيها لغير القاتل والمقتول.
أي مفارقة هاته في الصورة والأقدار. ينشد فريد الأطرش عن بلاد الشام سوريا ولبنان قائلا:إنها «قامات وقدود… عليها بشوف عيون وخدود ـ تزود نار القلب ببارود» وإذا بالبارود الذي نسبه إلى اشتعال المشاعر والحواس عشقا وتيمنا، يصبح قنابل وأحزمة بشرية ناسفة تهدر الأرواح بلا سبب. ومن لم يمت بالسيف لن ينعم بموت هادئ على السرير. إذ تتعقبه وحوش بشرية تضرب في أي اتجاه.
تنسحب الحالة أيضا على العراق، فقد قال عنها الشاعر: نروح يا بساط على بغداد… بلاد خيرات بلا أمجاد».
ويضيف في باب الشهامة والكرامة أو ما اصطلح عليه العراقيون ذات زمن بأرض النشامى، ويختزل الصورة: «نحن هنا بالسيف نحمي أرضنا.. وفي نهار الحيف نحمي عرضنا.. أما الكرم للضيف مخلوق فرضنا».
ها أن السيف لم يعد سلاحا للدفاع عن النفس ورمزا للفروسية والبطولة، فقد نابت عنه قنابل بشرية تتجول في أسواق بغداد التي ضاق بها الامتداد، حتى غدت الموصل بعيدة يأسرها تنظيم أطلق على نفسه اسم «الدولة الاسلامية» حطمت سمعة الإسلام والمسلمين. حتى إذا عرج البساط السحري المليء بالإيحاءات في اتجاه المنطقة المغاربية في الشمال الأفريقي، وتحديدا في مراكش وتونس صدح المطرب بمزاياها بالقول:
«بلاد الحوت والغلة والزيتون… فيها الشفايف قوت وللشراب عيون. يا للي عليها تفوت… اشبع طعام وشراب» لكن أين غزلانها البيضاء التي تصعب على الصياد؟ فقد اصطبغ اخضرار تونس باللون الأحمر وهجرها السياح والوافدون بعد أن انهالت عليها ضربات معاول الهدم الإرهابي. وأختم بأن فريد الأطرش الذي أبدى إعجابه بالقصبات والنخيل وحفاوة الضيافة، كان يعتزم تصوير أحد أفلامه في المغرب، لولا أن زيارته تلك تخللتها أحداث مأساوية. وحين غيبه الموت كان لا يزال في نفسه شيء من المغرب الذي اسمه مراكش في الذاكرة التاريخية التي لا تنمحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى