علل المجتمع العربي
بقلم: خالص جلبي
كما توجد أمراض متوطنة مثل البلهارسيا والملاريا، هناك من الأمراض الاجتماعية المستحكمة في مفاصل المجتمع ما هو أشد من الروماتيزم الخبيث. وإذا كان المرض يولد المرض ويهيئ الجو لمرض لاحق مثل السكري والسل، كذلك تفعل العواطف، فالإحباط يولد العدوانية. وإذا كانت الأمراض تحلق معا مثل سرب الطيور فتغتال الجسم، كذلك تفعل الأمراض الاجتماعية. والمجتمع العربي في معظمه اليوم يعاني من حزمة من عشرة أمراض، تشكل حلقة تتبادل التأثير الخبيث هي: (1)(إجازة الغدر)، و(2)(تأليه القوة)، و(3)(احتقار العلم)، و(4)(تبرئة الذات واتهام الآخرين)، و(5)(الإيمان بالخوارق)، و(6)(تقديس السلف)، و(7)(ظن أن النص يغني عن الواقع)، و(8)(الاهتمام بفضائل الجهاد من غير معرفة بشروط الجهاد)، و(9)(ورفض الديموقراطية مع أنها أقرب إلى الرشد من كل ما عليه المسلمون)، و(10)(ظن أن الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان، أي كأن العدل لا يمكن أن ينمو أكثر فأكثر).
نحن نحتفل بـ(أعياد الغدر) وجعلناها (مناسبات وطنية) تعطل فيها المدارس والدوائر الرسمية، وهي ذكريات الانقلابات في الظلام وسرقة الشرعية من الأمة.
وأما (تأليه القوة) فهو مرض أموي، منذ أن رفع معاوية السيف فقال من لم يبايع هذا وأشار إلى يزيد فله هذا، وأشار إلى السيف. وما زال السيف يحكمنا حتى إشعار آخر.
أما (احتقار العلم) فشاهده عقم الإنتاج العلمي، وشح التآليف والدرويات. ومنذ أيام ابن خلدون وتيمورلنك توقف العالم الإسلامي على حافة الأطلنطي في بحر من الظلمات، ومن خرقه بانت له الأنوار فتغير العالم.
أما (تبرئة الذات) فنحن نرى أن مشكلتنا هي إسرائيل وأمريكا، ولا يخطر في بالنا أن نراجع أنفسنا لنطرح السؤال المزعج ما الذي يسبب المرض، هل هو وجود الجرثوم، أم انهيار الجهاز المناعي؟
أما (الإيمان بالخوارق) فالجو عابق بالخرافة ينتظر الزعيم المخلص، وما زالت الجن ناشطة في ربوعنا، وهناك من يوزع البطاقات الانتخابية مثل الحروز، ويتحول الزعيم السياسي إلى (شيخ طريقة) يبايع على السمع والطاعة في بيعة أبدية، ويرقص الأتباع طربا ليس على ضرب الصنج والطبل، بل الزعيق بالروح بالدم نفديك يا أبو الجماجم إلى الأبد إلى الأبد. في تظاهرات لو رآها الألمان في فرانكفورت، لظنوا أنها مجموعة ضلت طريقها من مصح الأمراض العقلية. نعم إن الوطن تحول إلى مصحة كبرى بقضبان وهمية، بدون علاج وأطباء وأسوار.
أما السلف فهو يحترم ولا يقدس، ويستأنس به ولا يوقف عنده. ويستفاد منه ضمن خطة نقدية. والعلم يمثل حالة تراكمية من تبادل عمليتي الحذف والإضافة. وفوق كل ذي علم عليم.
وأفكار الرازي حول معالجة الأنورزما جيدة، ولكن طرق تصنيع الأوعية في الجراحة حاليا تجعل ما أوصى به الرازي ذا قيمة تاريخية. وإذا كان هذا ينطبق على كتاب الرازي الجراحي، فهو يصلح لفهم القرآن فلا يمكن إضاءته بتفاسير قديمة مثل ابن كثير، كما لا يمكن فتح جمجمة بأدوات فرعونية. ولا يمكن تدريس السيرة على شكل مسلسل من (الغزوات والمعجزات)، ولا بد من إعادة تصنيع الثقافة.
وأما (فك ارتباط النص عن الواقع)، فهو يجعل أحدنا معلقا في الهواء فلا قيمة للنظريات بدون ممارسة، والطبيب لا يكون ناجحا بدون تردد حي بين النظرية والممارسة. ونحن نرفض الديموقراطية لأنها غربية لا تناسبنا، ولكن لم يخطر في بالنا أن نقول إن السيارة غربية، وعندما نقلنا البرلمانات بنينا عمارات شاهقة بصالونات فخمة، ولكنها كما وصف الإنجيل القادة العميان «مثل القبور خارجها أبيض مطلي ومن الداخل نجاسات وعظام أموات». وفي ظل النظام المافيوزي في سوريا، جرت انتخابات في ربيع 2020 م والكل يكذب، والكل يغش، والكل يعرف أنه يغش ويكذب، صم بكم عمي فهم لا يفقهون.
وأما (الجهاد) فحصرناه بالقتال، ويمكن لأي مجموعة ناقمة أن تنظم نفسها وتنقض على أي نظام حكم وتقول عن عملها إنه جهاد في سبيل الله، كما لو أجرى الجراح عملية كبرى على قارعة الطريق بدون تهيئة الشروط ودخول الجراحة بشروط تعقيمية مشددة، وما قصة داعش وفاحش عنكم ببعيدة.
وأما الديموقراطية فنعتبرها كفرا، ولا يخطر في بالنا أن قضية التوحيد سياسية وليست ثيولوجية، وأن الأنبياء نادوا بكلمة السواء أن لا يتخذ البشر بعضهم بعضا أربابا. إذاً لكانت مهمة الأنبياء سهلة ومريحة. وعندما نقرأ آية ملك اليمين لا يخطر في بالنا أنها آية نسخها الواقع وليست لها سوى قيمة تاريخية، وأن كمية العدل غير قابلة للنكس والتوقف.
إن حزمة الأمراض هذه في العالم العربي واحدة في النوعية ومختلفة في درجة السمية، مثل التيفوئيد فهو يتظاهر عند مريض بارتفاع الحرارة، أو قد يضرب القلب والشغاف عند ثان، أو قد يثقب الأمعاء بنزف خطير، وفي السياسة رأينا دولا نزفت مثل الجزائر وأفغانستان، وأخرى تنزف مثل سوريا وليبيا واليمن، وأخرى تئن من الديون الخارجية، وثالثة في حالة اختناق سياسي، وخشعت الأصوات للحاكم فلا تسمع إلا همسا.