علبة أسرار لا تنفتح إلا على القليل
ليس مثل الوزير الدبلوماسي أحمد السنوسي من يُضحك ويحزن في الآن ذاته. إذ ينقل خبرا مقلقا، حين يعجز الآخرون عن فعل ذلك، بمسحة الطرافة، بعد أن يغلفه بما يحمل على تقبله، وإن كان خارجا عن التقاليد. ثم يصيغ حكاية جدية بطريقة شبه هزلية، تدفع سامعيها من كبار المسؤولين المغاربة والأجانب إلى التأمل في دلالاتها، بعيدة المدى.
حين يمازح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، التي كانت تعتبره صديقا وفيا ومشاكسا، على مائدة الطعام، لا يفوته أن يحضها على تخفيف وزنها، أو الزيادة في لحمه وشحمه، كي تبدو رائعة ومنسجمة مع نفسها. وكانت ترد عليه في الغالب بالانتباه إلى نفسه. ثم يضحكان بعيدا عن أرق الملفات السياسية التي تشغل العقول.
يقول أحد أصدقائه: إن أردت أن تقطع العلاقات الدبلوماسية مع بلد، فليكن تعيين أحمد السنوسي في المنصب الملائم في التوقيت الملائم، والراجح أن مروره بسفارات المغرب في كل من نيجيريا والجزائر وموريتانيا، كان يروم تعزيز العلاقات وتمتينها مع العواصم المعنية، وكان السنوسي جريئا وصريحا لا يصدق الأوهام الدبلوماسية. ينقل الوقائع كما هي بدون مساحيق، ساعده في ذلك أنه كان يقفز على التراتبية الوظيفية ويصارح بحقائق المواقف والأشياء، مهما كانت نسبة الإحراج فيها.
ويعلق المعجبون بأسلوبه في العمل الدبلوماسي بأن قطع العلاقات مع بعض الدول التي مر بها سفيرا، مثل الجزائر وموريتانيا، إنما كان ردا طبيعيا على تجاوزات لا تحترم أوفاق المعاملات ومتطلبات حسن الجوار. ومن حظ السنوسي أنه يكون في المكان والتوقيت الذي لا يحتمل الانتظار. ثمة من يرى أن تجربته في وزارة الأنباء علمته أن ينتقي من الأخبار والمعطيات ما يتم التصريح به علنا، وما هو غير قابل للنشر. إلا أن السنوسي كان يهتم أكثر بما يُحفظ في الصدور، فينقله بطريقته التي لا تحابي أحدا.
أصعب اللحظات التي واجهها وزيرا للأنباء، تمثلت في المحاولة الانقلابية المتمردة في الصخيرات في يوليوز 1971. وكان أول رد فعله يقضي بعدم ترك وسائل الإعلام الرسمية تقع تحت احتلال المتمردين. وكان وراء فكرة تسريع الانفتاح على الإعلام الدولي لإبراز أن الأوضاع تحت سيطرة الشرعية. وظهر الملك الراحل الحسن الثاني في نفس اليوم، وهو يخص قنوات ومجلات ووكالات مؤثرة بتصريحات بالصوت والصورة تفند المزاعم. وفيما كان مولاي أحمد العلوي يتفقد صفوف المنبطحين قائلا: «انهضوا أيها الكسالى»، حرص أحمد السنوسي على إيقاظ وسائل الإعلام بمنحها فرصة نقل الحقائق التي عرضت لإحباط تلك المحاولة.
عندما خلفه المعارض عبد القادر الصحراوي في وزارة الأنباء، نقل عنه القول إن ذلك يؤكد الاستمرارية. وكي يضفي نكهة الطرافة على كلامه أوضح أن الوزيرين يتشابهان في سمرة البشرة وفي المسار السياسي. فقد بدأ السنوسي حياته في ظل حزب الاستقلال، فيما الصحراوي انضم إلى الاتحاد الوطني، وانتخب نائبا في برلمان 1963، وتميزت كتاباته بحدة النقد، لكنه عين سفيرا بعد ذلك في بيروت، فيما اختير السنوسي إلى الجزائر في مرحلة دقيقة.
كان مروره مثقلا بأجواء التوتر التي بددت تقاربا أسفر عن إبرام اتفاقات هامة، وكيف يمكن تصور تجربة دبلوماسية مشحونة بتلاحق أحداث ما قبل تنظيم «المسيرة الخضراء»، وإقدام السلطات الجزائرية على طرد حوالي أربعين ألف مواطن مغربي كانوا يقيمون بطرق شرعية.. بعد نزع ممتلكاتهم وفصل روابطهم الأسرية، والرمي بهم إلى الشريط الحدودي بلا أموال أو أوراق أو مأكل.
لعل السنوسي يتذكر بمرارة كيف أن الرئيس الجزائري هواري بومدين تعمد استفزاز مشاعر المغاربة. ذلك أنه أثناء استقباله وفدا برئاسة الحاج الفقيه محمد أبا حنيني الذي كان بصدد تسليمه رسالة خطية من الملك الحسن الثاني، وضع مكتبه على درج مرتفع في قاعة الاستقبال، حتى إذا تسلم الرسالة بدا الحاج الفقيه كمن يهم بتقبيل يده. وكانت لتلك الصورة الأثر البالغ في نفوس المغاربة الذين أدركوا أنها فصل جديد في صراع بدأ ولم ينته بعد.
عاين السنوسي وقائع الإعداد للمسيرة الخضراء عن بعد. فهو من القلائل الذين أقسموا على المصحف الكريم بإبقاء ترتيباتها بعيدا عن التداول، وتردد أن فضوله جعله ينقل إلى الملك الراحل تساؤلات حول مظاهر الإعداد اللوجستيكي، ما مكنه من أن يعرف الكثير من الأسرار. لم يكن يحبذ الواجهة، لذلك فقد كان حضوره متميزا على امتداد أطوار المواجهات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر في المحافل الدولية. فقد كان ملما بمفاصل التحركات الجزائرية في الأمم المتحدة، وسخر علاقاته بأصدقاء دوليين لدحض الأطروحة الانفصالية، ثم تولى رسميا مسؤولية رئاسة بعثة المغرب في الأمم المتحدة.
بين الإعلام والسياحة وعالم الدبلوماسية اليقظة، توزعت المهام التي اضطلع بها. ويعتبر ذاكرة حية في هذا المجال، وإن استهوته عوالم الاستثمارات، مثل مسؤولين آخرين كانوا يعرفون أشياء كثيرة واستفادوا من تلك المعرفة غير المتاحة أمام الجميع، لكنه يظل قطعا علبة أسرار لا تنفتح إلا على القليل.