علاقة الكهانة بالغيب وظهورها عند العرب
هذا الذي أذكره الآن احتمالا، كان الكل يسلم بأنه حقيقة، كما يخبرنا بذلك فونتونيل (Histoire des Oracles, p 7-8).
يقول الأستاذ دودس: «من اللافت جدا للانتباه أن الشكوك حول دلفي ونبوءاته كانت نادرة قبل المرحلة الرومانية». (Les Grecs et l’irrationnel, p 81)، فقد كان الاعتقاد في الأصل الإلهي أو الشيطاني عاما في اليونان، وحتى بين الفلاسفة. ولذلك يلاحظ دودس بأنه إذا صح ما قيل من إن إكسينوفانس أنكر التكهن بأنواعه جميعها، فهذا معناه أنه الوحيد – من بين المفكرين الإغريق الكلاسيكيين- الذي لم ينكر فقط «علم» النذر والكهانة، بل أيضا كل هذه السلسلة من الأفكار المتعلقة بالإلهام والوحي والمس، والتي تجذرت عميقا في اليونان (Les Grecs et l’irrationnel, p 176-177).
وتوجد – عدا هذا القبول العام لكهانة المعابد- أدلة أخرى على أن شيئا غير طبيعي كان يحدث في هذه المعابد. مثلا كانت البيثيا أحيانا تجيب بنفسها شعرا، وفي سهولة غريبة، وباسترسال تام، رغم أميتها وجهلها (انظر: Les Grecs et l’irrationnel, p 81 et p 97-98, note 71). ولهذا يعتبر دودس أن الشكوك في تكهنات دلفي، وتصويرها على أنها حيل محكمة للكهان.. أمر مبالغ فيه جدا. وهو يحيل – لفهم بعض الظواهر الغامضة في المعابد – على التاريخ الحديث «لاستحضار الأرواح»، فثمة تشابه بين كثير من ظواهرهما (Les Grecs et l’irrationnel , p 80-81. وانظر مبحث «الروحية الحديثة» في الفصل الثالث من هذا الباب في كتابي هذا).
ولهذا يميل دودس إلى أنه فعلا كانت في معبد دلفي عناصر ميتافيزيقية أو غيبية. وأظن أن نظريات مثل التدليس والصدفة هي – في الواقع- نوع من الهروب من هذا الاحتمال القوي، وهو بطبيعته ليس له تفسير مادي واضح.
وعنصر الغرابة واقع أيضا في مسألة توقف المعابد عن التكهن، ولا يمكننا أن نفسرها بأسباب لم يعول عليها الوثنيون أنفسهم، اقتناعا منهم بقصورها عن تعليل صمت معابدهم. هناك عنصر غير طبيعي في هذا الموضوع، ونحن أمام خيارين: إما أن نتوقف رأسا عن تعليل هذه الظاهرة، فتبقى معلقة بلا تعليل، أي بلا فهم ولا حل. وإما أن نفسرها بعامل غيبي، كما يفعل المسيحيون مثلا.
رأي لوكليرك:
لعله أمر بالغ الدلالة تلك النتيجة التي ختم بها لوكليرك كتابه في الدفاع عن فونتونيل، لقد بدأ بالانتصار لهذا الكاتب، ثم انتهى إلى موقف وسط بين المتخاصمين فونتونيل وبالتوس، فقال – في كلام نقله ميكرون واستغربه -: «أعتقد أنه من الممكن أنه كانت توجد فعلا تنبؤات تلقيها الشياطين، أو مخلوقات أخرى عاقلة، من غير الطبيعة البشرية؛ رغم أنني لا أشك أن الناس كثيرا ما كانوا هم أصحاب النبوءات التي ينسبونها إلى هذه المخلوقات غير البشرية. وأعتقد في الوقت نفسه أنه من المتعذر – بالنسبة إلينا- أن نميز بين التكهنات الملقاة من طرف الشياطين، وبين تلك التي يعود أصلها إلى التدليس الإنساني. وهذا إما لأن الحكايات التي تروى لنا غير مؤكدة، وإما لأنها غير مفصلة جيدا ولا تستصحب الظروف الكاملة، لكي نستطيع أن نحكم هل هي نبوءات حقيقية أم حيل. يبدو لي أن هذا المعتقَد يحتل الوسط بين رأيي فونتونيل والكاتب الآخر الذي هاجمه، فكلاهما ذهب بعيدا في موقفه، وتطرف». (نقله ميكرون من كتاب لوكليرك: «المكتبة المختارة» الكتاب – أي الفصل- الثالث عشر، ص 180 :Histoire des Oracles, 135, note).
والذي لا يعرفه ميكرون ولا لوكليرك نفسه أن رأيه هذا هو أقرب الآراء إلى ما ينبغي أن يكون: النظرية الإسلامية للكهانة.
وهذا أوان التعرف على موقف الإسلام من الكهانة ورؤيته لهذه الظاهرة القديمة والجديدة، وكذا على جهود علمائه في تفسيرها. وسيجد القارئ أن في هذا الدين الخاتم نظرية حقيقية في الموضوع. وسأمهد لذلك ببحث مقتضب في وضع الكهانة بالجزيرة العربية قبيل ظهور الدين الجديد.
في تعريف الكهانة عند العرب
يتأرجح استعمال لفظ الكهانة في التراث العربي – الإسلامي بين طريقين:
الأول: تعميم اللفظ على أسلوب غير شرعي يبغي التنبؤ بالمستقبل على الخصوص، وبالغيب عموما. فالتفتازاني – مثلا- يقول: «الكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب». (شرح العقائد النسفية، ص 108، لمسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، أبو عمر، عالم مشارك في علوم اللغة والفلسفة والدين، ولد بنواحي نسا وأخذ عن العضد الإيجي، وتوفي بسمرقند سنة 791 هـ. له: شرح تلخيص المفتاح. حاشية على كشاف الزمخشري. المقاصد في علم الكلام. شرح التنقيح.. انظر معجم المؤلفين 12/228). ولذلك أطلق ابن حجر التعريف، فقال: «الكاهن من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي». (فتح الباري، 7/540، في ثنايا شرحه لحديث غلام أبي بكر الصديق الذي تكهن، في كتاب «مناقب الأنصار». والمؤلف هو أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني، المعروف بابن حجر، ولد بمصر وتوفي بها سنة 819 هـ. محدث كبير، أخذ عن الفضل العراقي وغيره. أكثر تصانيفه في الحديث والتاريخ، أهمها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الإصابة في تمييز الصحابة. تهذيب التهذيب. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة… معجم المؤلفين 2/21).
الثاني: يقصر صفة التكهن على أعمال معينة وأساليب محددة في استطلاع الغيب، فهذا المعنى أضيق.
وأشهر التعاريف الاصطلاحية للكاهن، على هذا الطريق، والتي رددها أكثر من تعرض لهذا الموضوع، إما في تفسير الآيات المتعلقة به أو خلال شرح الأحاديث الواردة في الكهانة.. هي لكل من العالمين الجليلين: أبو سليمان الخطابي، والقاضي عياض السبتي، والأول أقدم (أحمد بن إبراهيم الخطابي البستي، من ولد زيد بن الخطاب أخو عمر، محدث ولغوي وفقيه. توفي سنة 388 هـ. من تصانيفه: شرح سنن أبي داود. شرح البخاري. أعلام الحديث. إصلاح الغلط.. عن معجم المؤلفين، 2/61).
قال الشيخ الخطابي: «الكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرا من الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رئيا من الجن وتابعة تلقي إليه الأخبار. ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه. وكان منهم من يسمى عرافا، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزانية فيعرف من صاحبها، ونحو ذلك من الأمور. ومنهم من كان يسمي المنجم كاهنا». (معالم السنن، شرح سنن أبي داود، 4/211-212. كتاب الطب، باب النهي عن إتيان الكاهن، حديث أبي هريرة من أتى كاهنا فصدقه… والشرح للخطابي).
فالكهانة – إذن- أربعة أنواع:
تلقي أخبار الغيب عن الجن.
2- معرفة الغيب بقدرة خاصة موهوبة.
3- معرفة الغيب بنوع من الاستدلال والظن.
4- التنجيم.
وهذه الأنواع تجمع بينها دعوى مطالعة الغيب ومعرفته، ولذلك أطلق أبو العباس القرطبي أن «الكهانة ادعاء علم الغيب». (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/632، باب النهي عن الكهانة. وهذا الشرح لأحمد بن عمر الأنصاري القرطبي، ضياء الدين أبو العباس. ولد سنة 578 هـ بقرطبة، وبها سمع الحديث، ثم هاجر إلى الإسكندرية بمصر، وبها – وبالشرق عامة- استكمل تكوينه العلمي. فقيه ومحدث، له تصانيف حسنة: أصول الفقه. شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب. حكم الطلاق ثلاثا. كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسماع.. ويعرف أيضا بأبو العباس بابن المزين. أما أبو عبد الله بن فرح القرطبي صاحب التفسير، فهو تلميذه. توفي الشيخ سنة 656 هـ. عن مقدمة تحقيق المفهم، 1/31).
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد». (رواه بهذا اللفظ أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب 21 (بترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، أو معجم الحديث لونسنك، طبعة ليدن). ورواه أيضا البزار عن جابر بن عبد الله، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، خلا عقبة بن سنان، وهو ضعيف. عن: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 5/117 لنور الدين الهيثمي. وهو أيضا بداية حديث رواه الطبراني في المعجم الأوسط، قال الهيثمي: «وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وفيه توثيق في أحاديث الرقاق، وبقية رجاله ثقات». مجمع الزوائد، 5/118. يريد أن ضعف رشدين يحتمل في باب المواعظ والرقائق، أما في الأحكام وما ينبني عليه الحلال والحرام فلا.
وللحديث روايات أخرى مخالفة بعض الشيء لهذا اللفظ، أو زائدة عليه، مما ستراه في محله. ولذلك فأقل درجات هذا الحديث أنه حسن). هذا «الحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم على ما يدعونه من هذه الأمور». (معالم السنن 4/212).
أما القاضي عياض فقد قال:
«كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون للإنسان رَئِي من الجن يخبره بما يسترق من السمع. وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض، وما يخفى مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك، ولا بعد في وجوده، لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام.
الثالث: الحزر والتخمين، وهذا يخلق الله تعالى لبعض الناس فيه قوة، ولكن الكذب فيه أغلب.
ومن هذا الفن العرافة». وبعضهم يجعل في الثالث: المنجمين، بدل الحزر والتخمين، في تقسيم القاضي عياض هذا (ذكر هذا النص عن القاضي عياض: محيي الدين النووي في: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 14/186-187. وأبو العباس القرطبي في: المفهم، 5/632-633. وعلي الشوكاني في نيل الأوطار 7/367. وصديق خان في: السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج، 8/396-397. والأبي في إكمال إكمال المعلم، 6/45… بتفاوت قليل في الألفاظ، كلهم في باب الكهانة. والحزر- كما في لسان العرب: التقدير والحدس والخرص).
وبالمقارنة بين تقسيمي الشيخين، نرى أنهم يقسمون الكهانة على ثلاثة أنواع:
فنوع يتم بالاتصال بالجن، ونوع يعود إلى قدرة يدعيها الكاهن بمقتضاها ينكشف له الغيب المستور، ونوع أخير هو التنجيم بعينه.