شوف تشوف

الرأي

علاقات النيل والبشر

صبحي حديدي

في كتاب رائد صدر بالإنجليزية تحت عنوان «نهر النيل في العصر ما بعد الاستعماري»، وأشرف على تحريره تيرجي تفيدت، الأكاديمي والباحث النرويجي وأحد أبرز الاختصاصيين في شؤون الأنهار والنيل على وجه الخصوص؛ يقرأ المرء مشاغل هذا النهر العظيم، في آماله وآلامه لدى الشعوب التي يتقاطع معها، كما يناقشها باحثون من بوروندي ورواندا وتنزانيا والكونغو وكينيا وأوغندا وإثيوبيا والسودان ومصر. ذلك لأن النيل ليس نهرا عاديا، ولا هو «ساحر الغيوب» الذي «شابت على أرضه الليالي» كما وصفه الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل، فحسب؛ بل هو ذلك العملاق الهيدروليكي والجغرافي والبيئي والاقتصادي والتنموي والإثنولوجي والجيولوجي والديموغرافي… الذي لم تتوقف مفاعيله عن التأثير في شعوب البلدان (أكثر من 400 مليون نسمة) التي منها ينبع أو في أراضيها يمر.
والمقاربة المنهجية المركزية، التي قادت عمل النرويجي تفيدت والباحثين الذين تعاون معهم، نهضت على الدراسة المتأنية للطرائق التي اعتمدها الساسة والأناس العاديون في تأقلمهم مع النيل؛ ليس بمعنى العلاقات السياسية والاقتصادية والتنموية بين دول حوض النهر وحدها، بل كذلك في شتى مستويات الروابط الإنسانية المعقدة بين البشر والنهر. أغراض منهجية حميدة قادت المجموعة إلى التركيز على أطوار ما بعد الاستعمار، في ضوء ما قبله حين تولى التاج البريطاني معظم أشغال استكشاف وتوظيف أنهار النيل المختلفة. أطوار الاستقلال تخص تعقيدات «الدولة الوطنية» كما شهدتها الغالبية العظمى من المجتمعات التي تحررت من نير الاستعمار، والعلاقة العميقة التي ربطت النيل بالمجتمع تجاوزت السياسة والدبلوماسية والأحلاف الإقليمية؛ تماما كما أنها اليوم مرشحة للإبقاء على تأثيرات مباشرة لدى الشعوب بصرف النظر عن طبائع الأنظمة السياسية في القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، ضمن مواقف العواصم الثلاث إزاء سد النهضة الإثيوبي.
وإذا رحل اليوم ذاك الذي كان الرجل الأقوى في الكون، الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، صاحب التحذير من أن مصر قد تفجر سد النهضة؛ فإن حاكم مصر عبد الفتاح السيسي لم يرحل بعد، وكذلك لم يقطع أية خطوة ملموسة تجاه الضغط على إثيوبيا. والأسباب عديدة وراء هذا الانسداد في استخدام الضغوط، لعل أبرزها أن نظامه لم يُضِف إلا المزيد على ركام التقصير الذي بدأه حسني مبارك، منذ أن وضعت أديس أبابا حجر الأساس على مشروع السد في أبريل 2011. قبل هذا التاريخ كانت مصر على لائحة الدول المهددة بنقص المياه، لاعتبارات تخص التزايد الهائل في أعداد السكان، وسياسات الري الخاطئة، وزراعة محاصيل عالية الاستهلاك للماء، وتلويث النهر بالفضلات والمجاري.
وهكذا، حتى قبل أن تشرع إثيوبيا في الملء الثاني لسد النهضة، تقول المؤشرات إن نصيب المواطن المصري من المياه يقل عن 1000 سم سنويا، أي ما يعادل حد الفقر المائي حسب التقديرات المعيارية المعتمدة؛ عدا عن احتمال هبوط المعدل إلى 500/ سم/ سنويا في العام 2025. السودان، من جانبه، يتميز بأنه البلد الذي تتدفق في أراضيه روافد النيل الكبرى، الأبيض والأزرق وعطبرة؛ كما أن آلاف السنين مرت على المزارعين في استغلالهم لسخاء الأنهر هذه في أوقات الفيضانات تحديدا. لكن سلسلة من السياسات الخاطئة، ليست بعيدة عن التماثل مع السياسات الخاطئة المصرية أو حتى التكامل معها أسهمت سريعا في استنزاف طاقات النهر.
الجوهري هنا هو أن سوء استغلال النهر يفسد علاقته بالبشر ويُضعف الصلة الإنسانية العميقة بادئ ذي بدء، قبل أن تتآكل مع الإفساد والإضعاف حصة «واهب الخلد للزمان» في ملاقاة عطش البشر وتطوير معيشهم والارتقاء ببيئاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى