شوف تشوف

الرأي

عطاء مجذوذ

جهاد بريكي

رمز العطاء، ومشعل للكفاح والتضحية، خُلِقت لتُعطي، وتعطي، وتعطي، بمقابل أو بدونه لا يهم. فدورها يتلخص في كلمتين: المنح والعطاء.
طفلة تمنح الحنان لأب متذمر متعب، يعود من عمله ليجد الطفلة البشوشة البريئة فاتحة ذراعيها تستقبل هذا الجسم الضخم المضطرب داخل حضن صغير، فيهدأ ويعود لرشده. البنت أم أبيها كما يقال، وأم أخيها وعمها وخالها. تولد لتكون أما حاضنة للجميع، حتى وإن لم تشعر هي برغبتها في أن تكون كذلك، أو حرمت من أن تصير كذلك. قضي الأمر قبل مولدها وطبعت روايتها حتى قبل أن تقرأها. كذلك اقتنعت بنات حواء، أمهات آدم منذ زمن بعيد. الأنوثة تعني الكرم، كرم المشاعر، كرم القول والإفصاح، كرم الإنفاق، وكرم الحضن والقبلة. والكرم يتجلى في جسد مانح للحياة وثدي مدر للخير.
تكبر الطفلة، أنا وأنتِ. ليكبر معنا حجم العطاء الواجب منحه، والتضحيات الضروري تقديمها، لنكون بذلك قد نلنا كمال الأنوثة، وحزنا لقب المرأة الصالحة. وبه كنا جديرات بحيازة الشرف الأعظم، الأمومة الحقيقية. فماذا يمكن أن يحصل لو قررت أنثى ما أنها غير راغبة بهذا الشرف ولا طمع لها بهذا التكريم!؟ ماذا لو قررت أنها لا تريد أن تكون أما!؟ أو لم يمنحها الكون الحق في أن تكون كذلك!؟
يوما ما ألقيت الفكرة في مجمع نسائي ضخم، ففوجئت بنظرات غريبة، أظنها تشبه تماما تلك التي اعترت بني إسرائيل عندما قدِمت مريم بنت عمران حاملة طفلا بين يديها دون عقد زواج يشهد عليه الله وخلقه. سمعت أجوبة عديدة، كأن اكتمال المرأة لا يكون إلا وهي تحمل طفلا بين يديها، وأن الرجل لا يحب المرأة إلا إذا أثبتت خصوبتها وقدرتها على منح الحياة. كما أن المرأة مهما نضجت وعلا مقامها وابتهج عقلها بالمعارف والعلوم، لا بد لرحمها أن يشتغل وإلا فسد كل ما سبق. ثم من سيعتني بها عندما ستكبر، من سيرعاها عند المشيب وانحناء الظهر وتساقط الأسنان. رأيت الشفقة في عيون الأمهات لأني أملك سؤالا شاذا من شأنه أن يحرمني أنوثتي ويحولني لكائن مسترجل ينفر الرجال والنساء منه. سمعت دعوات بالذرية الصالحة والرحم الخصب والعقل المتزن، الذي لا يطرح أسئلة شاذة غبية. فصمت، على غير عادتي. هاج المحفل كله علي، وعلت الأصوات وكثرت الحجج. فارتأيت أن أترك فكرتي لنفسي. فلن أواجه عرينا من لبؤات استفزت إحدى ركائز حكمهن.
سعيدة امرأة جيدة، تملك من الإخوة الكثير، اجتهدت واشتغلت كثيرا ولحسن حظها هاجرت لبلد متقدم ومتحرر إلى حد ما. تزوجت وكسبت مالا كثيرا، واستطاعت أن تفعل ما عجز إخوتها الرجال، جميعهم، عن فعله وتفوقت على أخواتها المتزوجات، الأمهات وغيرهن. ساعدت إخوتها فقيرهم وميسورهم، إحسانها وكرمها لا يعرف الحدود. سعيدة حرمها القدر من شيء كانت تظنه عاديا، لكن مع الوقت اكتشفت أنه كل شيء. سعيدة لا تنجب، ولا أمل لها في ذلك، سعيدة عاقر، أرض بوار، وبئر جافة في صحراء قاحلة. حاولت مرارا وتكرارا معاندة قدرها ومجابهته. زارت الأطباء داخل بلدها وخارجه، زارت الشيوخ وشربت ماء الرقية واغتسلت بلعاب الشيخ في دلو ماء قرأ عليه سورتي البقرة والملك. استشارت العرافات وهي المتعلمة المثقفة، وسمحت لأيديهن التي لم تحمل قلما قط، أن تضغط على رحمها المسكين، وتغرسن أصابعهن في أحشائها لاكتشاف الخلل تماما كما يفعل دكتور نساء وتوليد. وبطبيعة الحال عرفن السبب، وهو سحر أسود دفن في بادية رحل أهلها عنها وتحولت لمعمل صخور كبير. قضت سنوات طويلة داخل حرب إثبات الأنوثة، خرجت منها بهزيمة كبيرة. كل شيء أصبح بدون معنى، مادامت غير قادرة على منح الحياة فلأي شيء هي صالحة.
تعود لبلادها فترى الحزن البادي على وجه أمها، والأسف الظاهر على تصرفات أخواتها، الأمهات المرهقات الصابرات على الأب وأبنائه. اللواتي تركن صفوف الدراسة للالتحاق بعش الزوجية وسرير الأمومة، واللواتي ينتظرن إعانات سعيدة المادية كل شهر. يواسينها كما يواسين مريض سرطان اكتشف أن لا علاج لمرضه. لم تكن حزينة أبدا عند اكتشاف عقرها، حزنت فقط عندما سمعت دعوات الشفاء وهي التي لا تشتكي من شيء، وعندما عانقتها أمها بصدق، للمرة الأولى في حياتها، وأخبرتها أن الله سيعوضها، لم تعلم عن أي شيء يجب أن تعوض، ولا كيف سيعوضها وهي التي لا تطلب شيئا. تحولت سعيدة من شابة ناجحة غاصة بالحياة والأمل، معطاءة لحدود السماء، إلى امرأة مسكينة مقهورة، والتي كلما ذكر اسمها فاضت الأعين دمعا والقلوب كمدا وأسفا، وتعالت الدعوات والصلوات. أصبح موعد عودتها السنوي لبلدها وأهلها محنة حقيقية، كانت تأتي كمريض غادر مستشفى عموميا خربا لقلة حيلته وهوانه على بلده.
أراقب سعيدة، وأراقب نظرات الناس نحوها كلما ذكر خبر امرأة رزقت بطفل أو طفلين، محاولات فاشلة بمنحها مواساة هي لا تحتاجها. عيون النسوة تتغامز في حضورها حتى لا يزل لسان إحداهن بحديث عن طفلها وجماله ورقته في حضور العاقر.
سعيدة اليوم عبارة عن طابو مجتمعي محرج، مع أنها لم تختر أن تكون كذلك، الكلام عنها يكتنفه الحذر والحيطة والكثير من الأسف، ونبرات الاستغراب والتعجب من زوج ما زال يحب امرأة كسعيدة، امرأة عاقر لم تنجح في إعطائه ما يستحقه الرجال، ثغور صغيرة باسمة تقفز على كتفيه لتتشبث بأطراف ثوبه. لقد كانت سعيدة الثغر الوحيد الباسم الذي أراده هو على كل حال، لحسن حظها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى