شوف تشوف

الرأي

عصيان الحروف

 

 

بنموسى

 

حالة هيستيرية من الكتابة تلك التي كانت تبتلعني كلما كان يخيم فوق رأسي غيم الحزن، كانت الأبجدية تتسابق لمراقبة الدمع، وتتدافع النقاط والحروف لرسم المأساة.

لا أعرف كيف أكتب فرحي، ولا أستطيع خياطة نص أدبي يشبه بسمتي ولمعة عيني -تلك التي تحبها- لكني أحسن تصوير العويل، وأطرز الحروف بالجروح التي تمزق كبدي، وقد تسمع إذا أنصتت جيدا للكلمات صرخات روحي.

لم يزرع الله في أصابعي بصمات الفرح، لم ينقش حروف السعادة على أناملي، ولا أنعم علي بالكتابة كما يظن البعض، لكنه مسخني بها، وألصقها بي خطيئة يؤجج نارها البؤس، وتصفق لها الخيبة، ولا تخبو إلا لتشتعل من جديد.

أنا طفلة العشرين عاما وخمس خيبات، كنت أركض ما بين وجنتيك، أرقص على أوتار قلبك، وأسكن هناك عند الوريد في أقصى يسارك…

ثائرة، غاضبة، عاشقة، مقصوصة الشعر، وحافظة لملامحك كلها… بكلي تعودت على حضورك، وتعودت أن أعبد الأرض بدمعي، وأمشي إليك الهوينى قابضة بأصابعي المرتعشة على جميع خيوط قلبك، رافضة أن أفلتها حتى ولو أدمت يداي…

وأنت، أنت لم تكن إلا أنت، لا تشبه إلا صورتك المرتعشة عند انحناء الدمع في أحداقي وكل الصباحات لم تكن شهية إلا بك، وطبعها البؤس بعدك.

صدقا، قبلك لم يحدث أبدا أن أعجزتني كتابة حزني هكذا، أن عاندني القلم، ولفظتني الأوراق رافضة دموعي.

كنت حين أطالع المرآة أجد الأبجدية تنتظرني هناك مبتسمة تقول لي لا مفر لك مني أيتها الطفلة العجوز، الأقلام كانت تحشر نفسها عنوة في فراشي ليلا، والأوراق حاربت كثيرا كي تظفر بمكانها بجانب رأسي على المخدة لكني الآن مقطوعة الأصابع، ضائعة بين الفواصل أبحث عنك، وعاجزة عن الكتابة وسط بحور الدم التي تطوقني من كل الجهات، ولا أملك سوى أن أقول لك أني: “أحبك بنفس السهولة التي يشنون بها حربا، وللأسباب الغامضة نفسها”.

الكتابة ليست تنفيسا عن الحزن، ولا بوحا قد يخففه، هي مجرد اجترار مريض للمأساة، رغبة سادية في إعادة تمثيل مسرح الجريمة بأدق تفاصيله، ورص معاد للمشهد قبل أن يأتي على جماله الخراب، ذاك الخراب الذي ينسل في المرة الثانية على شكل حروف.

الأمر يشبه أن تفتح جرحا في جسدك مئات المرات وتمنعه من الالتئام، أن تتفنن في فتحه، وفي إعادة رسمه بطريقة سيحبها النظارة ولن يحس بألمها سواك.

أنا أبدا لا تغريني المآسي الباردة التي لا ترغمني على كتابتها، تلك التي تأتي خاوية كأنها جسد نخر بال لا أثر لإمكانية الحياة فيه، تستلقي بجانبي لتخرج لي كفزاعة في كوابيس الصباح، ثم تختفي بالتدريج في دخان السجائر والظلام.

لم أتعود على احتضان المأساة إلا حين أراها تذبح كل فرصي، تحرق سفني، تجعلني أشعر بفرحتي تصير رمادا داخل فمي، وعالمي يتفتت بين يدي، وتجرني إلى كتابتها عنوة. وأنت المأساة الوحيدة التي عجزت عن خطها حروف رثاء، والقصة الأخيرة التي لم تصمد عند أبواب بداياتها أبجديتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى